تطرح التطورات الحاصلة على صعيد الاقتصاد العالمي جراء التراجع اللافت في أسعار النفط وتدخل العامل السياسي في جزء كبير منه الكثير من التحديات، وتدفع باتجاه البحث عن مصادر دخل أخرى، والتحرك نحو التوظيف الحقيقي والفعلي للثروات الطبيعية والبشرية والاستثمار فيها، حيث لا يزال هناك الكثير من هذه الثروات بشقيها الطبيعي والبشري إما معطلًا وغير مستغل وإما مهدرًا، والهدر هنا قد يكون مركَّبًا خاصة في الجانب البشري من حيث صرف الأموال لعمليات التعليم والتدريب والتأهيل والإعداد وعدم استغلال هذه الطاقات المعلمة والمدربة والمؤهلة. فاليوم ثمة الكثير من الطاقات البشرية تتراوح بين التعطيل وعدم الاستغلال وعدم التوجيه والاستفادة منها، وبين تحولها عبئًا لعامل ذاتي لدى هذه الطاقات إما لترفعها عن ما هو معروض من الوظائف ولو كانت دون مستوى المؤهل العلمي والمهني، وإما للنظرة الضيقة نحو الوظيفة الحكومية أو المكتبية وانتظار هذه الوظيفة وقطار العمر يمضي وتبدأ تلك الطاقة أو المعرفة بالنضوب رويدًا رويدًا مع مرور الوقت غير المستغل.
وإذا كانت مسيرة العمل الوطني في بلادنا على مدى مراحل النهضة المباركة مضت وفق خطوات محسوبة ومدروسة لبناء الإنسان العماني، فإن الحاجة اليوم أدعى إلى الانتقال من طور البناء إلى طور الارتقاء وخاصة في جوانب الريادة والمهارة والتأهيل والتدريب، مواكبة مع متغيرات الحياة وطرق العيش، ومع إفرازات العصر وتطوراته العلمية والفكرية، وبالتالي بات لزامًا رمي الأحجار في المياه الراكدة، وإعادة شحن تلك الطاقات البشرية بالتوازي مع نفض الغبار عن الثروات والمقومات الطبيعية غير المستغلة استغلالًا سليمًا أو تلك التي لا تزال بمثابة كنز بالأيدي العاملة الوافدة كما هو حال قطاع المحاجر وإنشاءات الطرق، وهندسة الكميات، وقطاعات الكهرباء والميكانيكا والزراعة والسياحة وغيرها، ولا يتأتى هذا الحراك إلا من خلال استحداث خطط وبرامج طموحة وواعدة تعنى بتلك الجوانب السالفة الذكر لارتباطها المباشر بالحياة وأنماط العيش وملامستها الاستقرار الاجتماعي وحتى الاستقرار السياسي، فما كان مقبولًا بالأمس، لم يعد مقبولًا اليوم، بل مرفوض الاستمرار في طريقه؛ ذلك أن البناء الحقيقي للأوطان لا يتم تمامه إلا بسواعد أبنائها، وإذا كانت دواعي الحاجة فرضت الاستعانة بالأيدي العاملة الوافدة في البدايات فيجب أن لا تستمر وبدون نهايات.
ندوة "تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة" التي عقدت بأوامر سامية في رحاب سيح الشامخات بولاية بهلا بمحافظة الداخلية لامست لب الحقيقة التي يعيشها مجتمعنا ووضعنا الاقتصادي من حيث غياب النضج والوعي المطلوبيْنِ لتنمية الاقتصاد والدفع بعجلة الإنتاج، وبعد أن شخَّصت الواقع اتجهت إلى صرف فاتورة العلاج التي جاءت ولأول مرة في صورة قرارات وليس توصيات. ونظرًا لأهمية ما رصدته الندوة من مشكلات وما أصدرته من قرارات، جاءت الأوامر السامية من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ بضرورة إجراء تقييم لهذه القرارات من أجل الوقوف على حجم المنجز والمتحقق ومعرفة السلبيات والإيجابيات، ومدى استفادة أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة منذ مباشرتهم تأسيس مؤسساتهم ومدى استفادة ذوي المبادرات الفردية، لما لهذه المؤسسات من مردود إيجابي سواء من حيث الدخل أو إتاحة فرص عمل أو إثراء العمل الحر وكسر الحواجز النفسية لدى الراغبين في الانخراط في المبادرات الفردية وريادة الأعمال.
الندوة التي انطلقت أمس هدفها تقييم قرارات سيح الشامخات، وستخرج في ختام أعمالها بالطبع بقرارات، وهي ـ بلا شك ـ تعد خطوة تعزز الأهداف الاستراتيجية الاقتصادية والصناعية التي تسعى السلطنة لتحقيقها بهدف تنويع مصادر الدخل وإيجاد فرص العمل للمهارات الوطنية والأيدي العاملة المحلية التي يجري إعدادها وتأهيلها على أحدث خطط التأهيل والتدريب لخوص غمار الحياة العملية بحيث يصبح اقتصادنا قويًّا.