لم يكن الثالث والعشرون من يوليو من عام 1970 حدثا عابرا في حياة الشَّعب العُماني، بل نقطة تحوُّل في مسيرة عُمان الحديثة ونهضتها المتجددة، اختصرت المعادلة الصعبة في بناء الدولة العصرية، وأعادت فلسفة بناء العُماني في ظل ظروف صعبة وأحداث معقدة، حتى أصبح يسري في شريان كل عُماني عاصر النهضة وعايش أحداثها، وجسَّد تجلياتها في تفاصيل حياته، وحيث إنه لا مجال للمقارنة بين ما تحقق في الخمسة عقود الماضية وبين ما هو موجود قبل هذا التأريخ، فعُمان اليوم ليست كالأمس فقد تبدل وجهها الشاحب ونفضت عنها غبار العزلة والجمود وانطلقت تفتح أبوابها ونوافذها للنور الجديد، وهي النهضة التي انطلقت من العقبات والتحديات التي واجهتها، والظروف القاسية التي وجدتها، وقلة الموارد والإمكانات التي تعتمد عليها، سوى إرادة أبناء عُمان وشغفهم نحو التغيير، ورغبتهم المتعطشة للحياة ونور العلم والأمن والسلام، تدفعها إرادة باني نهضة عُمان الحديثة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور ـ طيب الله ثراه ـ والأمل الذي يتسلل من نافذة منزله العامر بصلالة وهو يراقب حياة أبناء عُمان، وما يعيشونه في شظف العيش، وسوء الحال، وتردي الأوضاع الاقتصادية وافتقار الواقع الاجتماعي والمعيشي لأبسط مُقوِّمات الحياة الكريمة والعيش السعيد، وما عليه العُمانيون من تعطش للفجر الجديد، والنور الذي سيضيء الله به سماء عُمان وأرضها، لتستعيد فيه عافيتها، وتحقق خلاله أمجادها التليدة، ويكون لها حضورها المشهود بين الأمم، حتى جاء هذا اليوم الخالد حاملا معه لواء التغيير باعثا للأمل والإيجابية لمرحلة جديدة في حياة عُمان، وقد أسدلت الستار على كل الظروف الصعبة التي عاشها أبناء عُمان، لتبدأ مرحلة جديدة عمل فيها جاهدا مخلصا على بناء العُماني وتوفير كل مُقوِّمات النجاح والأمن والصحة والتعليم والعيش له، وتأسيس دولة عصرية شهد لها القاصي قبل الداني.
لقد حُفرت شواهد هذا اليوم الماجد في الذاكرة العُمانية، ونُقشت بأحرف من نور في جبين التأريخ، فتشرَّبته القلوب، وعلق في الأذهان، وتماهت أحداثه مع كينونة إنسان النهضة، وتجلت مواقفه في تفاصيل حياة العُماني، وبقيت كل التعابير الوطنية التي تشدو بحب عُمان وخصوصية هذا اليوم، حاضرة في حياة إنسان النهضة، فكان: “صوت للنهضة نادي، هبوا جمعا وفرادى”، سيمفونية روحية، وتراجيد حياة، تستنطقها المشاعر قبل الكلمات، وترددها القلوب قبل الألسن، وتتغنى بها النفوس التي وجدت في هذا اليوم طريق الكرامة والعزة والنهضة، فقد انطلقت نهضة عُمان من هذا اليوم التاريخي شاقة طريقها إلى عنان السماء، بسم الله مجريها ومرساها، عملا دؤوبا، ونهجا مخلصا، وسهرا متواصلا، وترحالا مستمرا لكل عُمان الغالية، تاركا القصور والمدن ليتجه إلى الصحاري الواسعة، والفيافي البعيدة، والأودية والأماكن الصعبة في جولاته السامية متنقلا في أرض عُمان العظيمة ليطمئن قلبه على أن الخدمات قد وصلت للمواطن وأنه يعيش في أمن وسلام واطمئنان، كما هو وعده الصادق لأبناء وطنه منذ أول يوم لجلوسه على عرش الحكم ـ طيب الله ثراه ـ وكلماته التي أسمعت كل شيء “سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب...”، فبدء بتأسيس الدولة التي وضعت الإنسان ومبادئه واحترام حقوقه في أولويات الاهتمام ومحور العمل، في حوار مع النفس يحاكي خلجاتها، ويلامس شغافها، ويسمو بفكرها، ويبعث فيها الأمل بقادم جديد، وغد مشرق سعيد، وروح متجددة بالأمل، تنبض بالحياة، وتستجيب للأمنيات المتعاظمة، والأحلام الكبيرة والغايات البعيدة، فتحقق لعُمان من صنوف الإنجاز والتنمية والتقدم في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والخدمات، ما لا يحتاج إلى تبيان، فقد تبوأت مكانتها الراقية، ومنزلتها السامية الرفيعة التي وضعها فيها، وأرادها لها، وسهر على تحقيقها فكتب الله له النجاح والتوفيق.
وها هي صفحات الإنجاز القابوسية وصلت إلى مرحلة الختام بوفاته في العاشر من يناير 2020، لتبدأ صفحة جديدة في حياة الشَّعب العُماني، مرحلة بناء عُمان المستقبل، بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، لتستمر منابر العطاء ومسيرة الإنجاز وسيمفونية البناء ممتدة لما بعدها من الصفحات محققة الآمال التي أرادها قابوس المعظم أن تتحقق لعُمان، لتبدأ الصفحة الحادية والخمسون امتدادا لما قبلها، جسرا ممتدا بعُمان لبلوغ الغايات العظيمة والرؤى السامية ومعبرة عنها، مجسدة لطموحاتها، ومحافظة على مكتسباتها، آخذة بعبق التراث التليد، والإرث الحضاري الماجد، وما حفظته الذاكرة العُمانية من مآثر قابوسية خالدة، طريقها لبناء عُمان المستقبل وتحقيق رؤيتها الطموحة “عُمان 2040” .
من هنا لم تكن أحداث الثالث والعشرين من يوليو من عام 1970 منفصلة عن أحداث الحادي عشر من يناير من عام 2020، إنما هي امتداد لنهضة العطاء المتجددة، وتجسيد عملي لها، لإنتاج مرحلة جديدة استفادت من الماضي العريق، والحاضر المشرق لعُمان في بناء مستقبلها الواعد، بما انعكس على رؤيتها الطموحة التي لم تتنكر للماضي، بل وظفته من أجل بناء مستقبل زاهر، تضع هوية الأجداد والآباء وتاريخهم وتراثهم مدخلات للتطوير والتجديد، ومنطلقا يرسم للأجيال القادمة طريق المستقبل بآماله وطموحاته، بإرادة صلبة، وعزيمة لا تلين؛ فإن ما قدمه أبناء نهضة الثالث والعشرين من يوليو من مواقف وتضحيات جسيمة، هو ما جعل لعُمان حضورها النوعي وأثرها الفاعل ودورها الحضاري في عالم مضطرب، لتثبت أمجاد الثالث والعشرين من يوليو أصالة هذه النهضة وإنسانيتها، والأمانة التاريخية والحضارية والأخلاقية التي جاءت لتحقيقها من أجل عالم يسوده السلام والتنمية والتقدم والازدهار.
أخيرا، سيظل الثالث والعشرون من يوليو بما حمله من أحداث البناء والتنمية، والتطوير والتجديد والوحدة والوئام بين أبناء الشعب الواحد، والمعطيات التي أنتجها في خضم تلك الأحداث الصعوبة والمواقف البطولية النبيلة والتضحيات العظيمة التي قدمها قابوس الأمة وجنده المخلصين وأبناء عُمان الأوفياء، من توحيد كيانات الدولة، وإنتاج دولة عصرية شهد لها القاصي قبل الداني، رسمت معالم القوة، وفتحت أبواب التغيير ونوافذ الأمل، والتصقت بإنسانية البناء، وعظمة المبادئ، لتخرج بعُمان إلى عالم أرحب، وأفق حضاري متجدد، محطة لالتقاط الأنفاس، وذاكرة وطن لن تأفل، وإرث خالد لن يتقادم بتقدم الأيام، متجددا في ذاته، حاملا معه لواء التغيير ووحدة الوطن، والولاء لعُمان وجلالة السلطان، واضعا أحلام العُمانيين وآمالهم وطموحاتهم، في كل خطوات الإنجاز ومشارب التنمية وأولويات البناء ومشاريع التطوير ونفاذ حركة التغيير في العقول والأفهام والقلوب والأفئدة ليصل نورها وضوؤها إلى كل شبر من أرض عُمان، في السهل والجبل، والمرتفع والوادي، والفيافي والشواطئ، وسيظل التاريخ الذي ولدت معه نهضة عُمان المتجددة، وانطلقت منه أشرعة المجد لتمخر عباب البحر من ظفار إلى مسقط وأرض عُمان جميعها حاملة السلام والإنسانية والأمن والتنمية، قصة وطن خالدة، ونهضة أمة ماجدة، مصدر إلهام للأجيال القادمة، وإشراقة لمستقبل نهضة عُمان المتجددة، ونافذة أمل يستشرف بها العُمانيون حاضر وطنهم ورؤيته المستقبلية. لقد وجد هذا الإرث القابوسي الخالد اليوم من يصونه ويحميه ويحافظ على مكتسباته ويبني على آثاره نهضة عُمان المستقبل، حاضرا في فكر القيادة المتجددة التي يرعاها ويصون مبادئها ويحفظ خطوطها ويحافظ على خيوط التقائها مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، واعدا أبناء عُمان بالسير في خطى السلطان الراحل “وإننا ماضون بعون الله على طريق البناء والتنمية، نواصل مسيرة النهضة المباركة٫
كما أراد لها السلطان الراحل رحمه الله، مستشعرين حجم الأمانة وعظمتها”، مؤكدا الانتقال بعُمان الشموخ والعزة إلى مستوى طموحاتهم المتعاظمة وآمالهم الكبيرة: “إن الانتقال بعُمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتى المجالات، سيكون عنوان المرحلة القادمة بإذن الله، واضعين نُصب أعينِنا المصلحة العليا للوطن، مسخرين له كافة أسباب الدعم والتمكين”.
ستظل أحداث الثالث والعشرين كغيرها من محطَّات البناء والعطاء ذكريات في زمن التغيير، حاضرة وبقوة في رسم ملامحه، ماضية في سبر أعماق المنجز القادم، مستشرفة محطَّاتها ومنجزاتها ومكوِّناتها في فكر العُماني وذاكرته الحضارية التي ولدت معه، وارتبطت به، باقية في وجدانه، لن تسلبها السنون، أو تُبهت صفاءها الأيام، أو تفقد رونقها الظروف والأحوال، نهضة متجددة وفكرا ساميا، ونهجا حكيما، وحكمة بالغة، وعطاء مستمرا، وإيمانا ثابتا، وقناعة راسخة، وعملا محكما، وإخلاصا يسمو بالإنجاز، ويصفو فوق كل معكرات المزاج، وفاء لقابــــوس عُمان النهضة والمجد والنور والإرث، وولاء لهيثم السلطان، الأمانة والعهد السعيد.

د. رجب بن علي العويسي
[email protected]