تركيا كذلك تحوَّلت إلى وجهة استثمارية وسياحية وعلاجية ناجحة بامتياز، يرتادها ويقبل عليها رجال الأعمال والأثرياء ومحبو السياحة والاكتشاف والشغف والاستجمام من عُمان ودول الخليج..

تحوَّلت تركيا في العقدين الأخيرين من العصر الذي نعيشه إلى قصة نجاح، رمز، نموذج، يحتشد بالصور والمشاهد والمواقف اللافتة، وبالأرقام والبيانات والمؤشرات التي يقرأها ويستحضرها ويستند إليها الخبراء والمحللون والإعلاميون والأكاديميون دلائل ودوافع إعجابهم بالنجاحات الكبيرة التي وصلت إليها تركيا، والإرادة الصلبة التي قادت الأتراك تحت قيادة “رجب طيب أردوغان”، إلى تحقيق نهضة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخ تركيا الحديث، أحدثت تحوُّلات عميقة في مستويات النمو والازدهار والتقدم الشامل، وجعلت منها ـ أي تركيا ـ رقما صعبا في المعادلة الدولية، ويحسب حسابها في محيطها الإقليمي، ومكانتها العالمية تعززت وتقدمت مؤشراتها بشكل كبير. ولا شك بأن النمو الاقتصادي الذي مكَّن أنقرة من دفع كل ديونها الضخمة التي ورث تركتها حزب “العدالة والتنمية”، والمشاريع العملاقة، والتطور السريع للبنية التحتية، والصناعات المتنوعة، والملامح الجمالية والحضارية وجودة الخدمات... التي شهدتها هذه الدولة الإسلامية ـ بإرثها التاريخي الممتد إلى أعماق الماضي ـ في سنواتها الأخيرة، وغيَّرت وجه تركيا وجعلت منها قصة نجاح ومثالا على أن المستحيلات والمعيقات تفتتها وتسقطها تباعا إرادة الرجال الصلبة، والإدارة الرشيدة الناجحة، مما يعلمه الجميع وتحتشد بالكتابة عنه التقارير والكتب والمقالات والصحف، فمن أراد الاستزادة فليعد إليها. وفي مقال سابق لي نشرته “الوطن”، قبل سنوات، أكدت فيه، على أن “تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، والتي بلغ ناتجها الإجمالي المحلي 800 مليار دولار أميركي في عام 2014 مقارنة بـ305 مليارات دولار أميركي في 2003. وتبوأت المركز السادس عشر بين أكبر الاقتصادات في العالم وسادس اقتصاد (مقارنةً بدول الاتحاد الأوروبي في عام 2013). أضحت مصدر إلهام لعدد من بلدان الأسواق الصاعدة، حيث زارها ما يزيد عن 20 وفدًا من (الهند وأوزبكستان وكوسوفو وكينيا وأوكرانيا، للتعرف على كيفية الإصلاح الذي اعتمدته لنظام الرعاية الصحية، والتعليم الثانوي، وإعادة هيكلة الجهاز المصرفي، وإدارة المالية العامة...) في تأكيد على أن هذه التجارب الرائدة يقف خلفها ملهمون وأصبحت في الوقت ذاته متاحة لمعدِّي ومنفذِّي السياسات والبرامج الاقتصادية في مختلف دول العالم العازمة والماضية قُدما في إصلاح اقتصاداتها وتكييفها بما يتناسب مع ظروفها. فمعظم اقتصادات الدول الكبرى والنامية تستفيد اليوم من خبرات بعضها، وتأخذ ما يناسبها من تجاربها الناجحة وتستقدم خبراء عالميين لإلقاء محاضرات وتنظيم ندوات متخصصة وتقديم أفكار تنويرية وإعداد خطط وبرامج تبتغي إصلاح وتحسين وتهيئة المناخ الاستثماري المحفز للقطاع الخاص، وتعزيز الموارد وتطوير القطاعات الاقتصادية بشكل عام، بل إن هذه الدول أصبحت تستقطب خبرات وكفاءات مشهودة وفي تخصصات متنوعة وتقدم لها الجنسية لضمان بقائها وولائها وإخلاصها في البحث والعمل والابتكار وإجراء التجارب وتقديم خلاصة أفكارها وخبراتها”. تركيا كذلك تحوَّلت إلى وجهة استثمارية وسياحية وعلاجية ناجحة بامتياز، يرتادها ويقبل عليها رجال الأعمال والأثرياء ومحبو السياحة والاكتشاف والشغف والاستجمام من عُمان ودول الخليج ومن مختلف مناطق وبلدان العالم، منها يشتري الكثيرون ويتملكون العقارات والمزارع والفنادق وسلسلة من المشاريع الاستثمارية المتنوعة، في قطاعات ومجالات وأنشطة عديدة، واشترى عدد من المتقاعدين العُمانيين شققا في إسطنبول و”يلوا” و”بورصة” و”طرابزون”... حيث يقيمون فيها لعدَّة أشهر خصوصا في الصيف، أو يراوحون مكثهم بين عُمان وتركيا، ويتحدثون باستمرار عن رخص الحياة فيها، مقدِّمين الأمثلة بأسعار خدمات الكهرباء والمياه والاتصالات والمواصلات والسلع والوجبات في المطاعم والمشروبات في المقاهي والأدوية والأجهزة الإلكترونية... ومقارنتها بالسوق العُماني والتفاوت الكبير فيما بينها، والتي تأتي لصالح تركيا بالطبع، ويؤكد هؤلاء أن تكلفة الحياة في تركيا لمدَّة ثلاثة أشهر تعادل شهرا في مسقط، كما شهدت تركيا تقدُّما كبيرا في القطاع الصحي، وتحوَّل بعض العُمانيين من تايلند كوجهة لطلب العلاج وجودة خدماته تشخيصا وإجراء للعمليات ووصفات دوائية إلى إسطنبول، مؤكدين أنها الأفضل من تجارب ووقائع ومواقف خاضوها بأنفسهم. وفي مجال آخر يضيف بُعدا جديدا في سلسلة الإنجاز التركي، ذلك الإبهار الذي أضاء سماء الدراما والأعمال والبرامج التلفزيونية والسينمائية التي قدمها الإعلام التركي وترجمت إلى عشرات اللغات العالمية الحية والنشطة، وعرضت في شاشات التلفزة والسينما على نطاق عالمي واسع ووجدت شغفا وإقبالا وشعبيا ومتابعة فاقت التوقعات والمتخيل من قبل المواطن العربي وشعوب العالم، وأسهمت في تقديم تركيا ثقافيا وسياحيا وحضاريا وتاريخا عثمانيا، ونجاحا في نمو الاقتصاد وتحفيز أنشطته التجارية وتنشيط السوق وتعظيم الموارد بإضافة الدراما إلى حظيرته. وقد كتبت أكثر من مقال عن المسلسل التلفزيوني الملحمي “قيامة أرطغرل”، الذي أحدث تحوُّلات في الفكر والثقافة الإنسانية بشكل عام، والنظرة إلى تركيا خاصة، فقد أخبرني “صديق بأنه حوَّل رحلته السياحية مع أسرته من إندونيسيا إلى تركيا بضغط من أولاده المتأثرين بمسلسل (قيامة أرطغرل) الذي بلغت مشاهدة إحدى حلقاته خلال بثها المباشر فقط ما يقارب من ١٥ مليون مشاهد، محدثًا نموًّا في عائدات الإعلان في شاشات التلفزة. فبحسب تقرير لقناة الجزيرة (ارتفعت بشكل جنوني رسوم الإعلانات التجارية ضمن مسلسلات الدراما التركية) حيث بلغ الإعلان لمدَّة (ثماني ثوان فقط على الشريط الإعلاني أثناء عرض مسلسل (قيامة أرطغرل) ١٧٠٠٠ ألف ليرة، أي ما يعادل ثلاثة آلاف دولار)، وأكد خبير بـ(شركة فرنسية أن عائد الإعلانات المصاحبة لعرض المسلسلات التركية على نحو ٤٠ فضائية عربية بلغ نحو ٦٠٠ مليون دولار). وقد اشترت حق بث المسلسل أكثر من ٨٥ دولة، وتُعدُّ تركيا (ثاني أكبر مصدر للمسلسلات على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية)، وحصل مسلسل (قيامة أرطغرل) على المركز الثاني في قائمة أعلى نسبة مشاهدة في العالم، ومع نهاية ٢٠١٤ بلغ إجمالي (العائدات من بيع حقوق بث المسلسلات التركية نحو ٢٠٠ مليون دولار، وتجاوزت العائدات سقف الـ(٢٥٠ مليون دولار في عام ٢٠١٥م)، وقفزت في ٢٠١٧ إلى أكثر من (٣٥٠ مليون دولار). فهكذا تستثمر الأمم والدول والحكومات وتنافس من أجل تنمية مواردها وتعزيز استثماراتها في مختلف القطاعات لتحقيق النمو والتقدم والتطور. رحلتنا الأسرية القصيرة إلى “الشمال التركي”، مرورا بـ”بورصة” و”إسطنبول”، كانت مفاجئة وغير متوقعة، ولم تكن ضمن برنامج التطواف المعدِّ لهذا العام، ولكن نظرا لوجود والدي في “طرابزون” للاستجمام والراحة واستعادة صحته ـ التي تعرضت لاعتلال أكثر من مرة ـ في أجواء ريفية خلابة وطقس معتدل ولطيف، وقراره بقضاء أيام عيد الحج في أرياف الشمال حيث الشلالات الهادرة والجداول المائية العذبة والغابات الخضراء والبساتين الممتدَّة إلى ما لا يطوله النظر، والأطعمة والفواكه والمشروبات والمخبوزات الطازجة، ولأن الظروف تهيأت لمن يعمل من أفراد أسرتي الصغيرة، فمدَّت إجازة العيد لبعضهم لتكون أسبوعا كاملا، ونجح آخر في الحصول على إجازة اعتيادية، أو مزاولة العمل من الشمال التركي عبر “منصَّات العمل عن بُعد”، فتمَّ تداول مقترح قضاء أسبوع العيد مع والدي ومشاركته أفراحه وفعالياته ـ أي العيد ـ ومع أنني لم أعتد من قبل، ولا أحبذ أن أكون في أيام العيد خارج عُمان، ولا أشعر بمتعته وبهجته إلا في أحضان قريتي “المضيرب”، حيث التجمع العائلي الكبير واللقاء الموسع مع من تجمعني بهم أواصر وروابط ومشتركات وذكريات لا حصر لها، إلا أن المقترح استهواني لأسباب كثيرة منها، أولا: زيارة ومشاركة والدي بهجة العيد والاطمئنان والسلام عليه في أجواء أسرية مريحة. ثانيا: خوض غمار تجربة مشاركة شعوب إسلامية أخرى فعاليات وفرحة العيد. ثالثا: لأنني لم أزر من قبل منطقة “الشمال التركي” ولدي الوله والشغف للاستمتاع بمشاهد الطبيعة فيها ولوحتها الجمالية الساحرة، وعلى ضوء هذه المحفزات والدوافع فقد حزمنا أمرنا وتوكلنا على الله، وبدأ أبنائي في الإعداد بحجز التذاكر والفنادق، وقد واجهتهم إعاقات كثيرة منها نفاد جميع المقاعد على كل رحلات شركات الطيران المتجهة إلى الشمال التركي، فاضطررنا للحجز على خط “طيران السلام الجديد” “مسقط” - “بورصة” تمهيدا للطيران إلى مطار “ريزة”، بالشمال، عبر خط داخلي من مطار إسطنبول، وواجهتنا كذلك إشكالات عديدة منها تعطل نظام الدفع بالفيزا للحجز، وامتلاء مقاعد جميع الرحلات الداخلية إلى “ريزة”، ولكننا تمكنا أخيرا من معالجة كل المشكلات التي عرضت خط رحلتنا بتوفيق من الله، وجهود ابني محمد، وأخواته خديجة وثريا ودعاء، الذين واظبوا لساعات طويلة على شاشات أجهزتهم وجربوا خيارات عدَّة، وولجوا عشرات المواقع ذات العلاقة، إلى أن أنهوا كل الإجراءات المطلوبة ونجحوا في حجز التذاكر على الخط الدولي “مسقط” - “بورصة”، والداخلي “إسطنبول” - “طرابزون”، والعودة من مطار “ريزة” - إلى مطار “صبيحة” في إسطنبول، فنكون قد سافرنا عبر خمسة مطارات تركية، وأنهينا كذلك حجز الفنادق في كل من إسطنبول و”ريزة”، والليلة الأخيرة في بورصة، تمهيدا للعودة إلى الوطن. فالجيل الصاعد من أبنائنا يعيشون عصر العلم المزدهر، التكنولوجيا المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، وشبكات الاتصال وقِيَم العولمة التي ألغت الحواجز والحدود، عبر التطبيقات والحسابات الإلكترونية والأجهزة التقنية، ينهون المعاملات ويعالجون المشكلات ويحوِّلون الأموال وهم على كراسيهم في مقهى أو مكتب أو غرفة نوم، لذلك نوصف نحن بـ”الأميين”، وهم بـ”المتعلمين”، لأننا بتنا نعتمد عليهم، فجيلنا يجهل ما يبرعون هم فيه.

سعود بن علي الحارثي
[email protected]