اسطنبول هذه المدينة الاستثنائية موقع استراتيجي، وتاريخ عظيم حافل بالأحداث والتحولات، وحضارة احتضنت ثلاث امبراطوريات، وجمال ومعالم سياحية تبهر العقول وتعبِّر عن الأبهة والفخامة والبذخ والثراء، والتي تشرئب الأعناق للتطواف واكتشاف جسدها الفاتن..

في الساعة العاشرة من صباح يوم السبت الموافق التاسع من “يوليو” 2022م، انطلقت رحلة “طيران السلام”، محلقة في سماء “مسقط”، متوجهة إلى مدينة “بورصة” التركية، وهي أول تجربة لي مع شركة “السلام”، ورفيقي في تطوافي إلى جانب أفراد أسرتي، كما هي عادتي التي تمزج بين متعتي السفر والقراءة، رواية “لويس دوبيرنيير”، “طير بلا أجنحة”، والتي “رشحت للقائمة القصيرة لجائزتي كتاب الكومنولث، وجائزة كوستا للكتاب...”، وأنتجت قصتها في فيلم عرضته دور السينما العالمية، وقد تناولت الرواية فترة زمنية مهمة في التاريخ التركي، “صعود مصطفى كمال أتاتورك وولوج تركيا إلى العالم الحديث”، وذلك “من وجهة النظر التركية”، وانهيار الدولة العثمانية التي حكمت وهيمنت على أجزاء واسعة من العالم، واستمر حكمها لما يقارب الستة قرون، وتسبب سقوطها في زلزال بعثر في ثورانه مدنا ودولا وأنظمة سياسية وشخصيات فاعلة في صناعة القرار العالمي والإقليمي، وأهال ركام ترابه على مناهج ومفاهيم وطموحات وخطط وأساليب وطرائق حياة... وسكبت أرطال من دموع الحزن والفرح تعبيرا عن الفاجعة أو الغبطة، كما عرضت الرواية لحملة “جاليبولي”، التي شنها تحالف من القوى “بريطانيا وفرنسا وأستراليا ونيوزيلندا...” لاحتلال عاصمة الدولة العثمانية، “اسطنبول”، وانتهت بالفشل في تحقيق أهدافها وتسببت في كارثة مروعة أدت إلى مقتل حوالي 150 ألف جندي، وأضعافهم من الجرحى والمعوقين. ويعد “لويس دوبيرنيير”، واحدا من أهم الروائيين البريطانيين، برع في مجالات وحقول عدة ونال عددا من الجوائز، وحُول عدد من رواياته إلى أفلام سينمائية. الراوية غنية بالتفاصيل ذات العلاقة بالحياة التركية في الفترة التي تناولتها، وصيغت بلغة سهلة جذابة، وأحداثها تتدفق بإفاضة وإسهاب، فيما تتولد الصور والمشاهد والمواقف بكثافة من رحم المكان وتحولاته، “فنحن في بلدة يأبى فيها المرء إلا أن يحشر أنفه في شؤون غيره، حيث تتناقل نسوتها النميمة وتروج الإشاعات عند موارد المياه، وفي مطابخ البيوت، وكذلك يفعل رجالها في المقاهي...”. وتعرض “طير بلا أجنحة”، لشخصياتها بأسلوب استكشافي أقرب إلى أجهزة الطبيب في تشخيصه لمكمن المرض وإجرائه بمهارة ولطف للعمليات الجراحية، فكل شخصية تظهر من زوايا الرواية بخصيصة وشكل وسلوك وعمر وجنس ومهنة وانتماء ومستوى تعليمي وثقافي تختلف كلية عن الأخرى، تعبيرا عن قدرة “لويس دوبيرنيير” على الابتكار والبراعة في صياغة قالبه الروائي الذي يثير بحق الإدهاش والمتعة، فتقدم الرواية مجتمعها الذي تتناول تفاصيل حياته في مرحلة تاريخية حساسة، عبر خليط من الشخصيات السياسية والعلمية والدينية ومن بسطاء الناس والعاديين في الأحياء الشعبية، فيعيش القارئ معهم يشاركهم مناسباتهم، همومهم وأفكارهم وتساؤلاتهم وحواراتهم وتقاليدهم وثقافتهم العامة، يتناول معهم الطعام ويسير في طرقاتهم وأحيائهم، يستوعب نظرتهم المتباينة إلى الأديان والمذاهب والأعراق ومختلف انتماءات البشر الذين يعيشون معا في نطاق جغرافي محدد، والمفاهيم المغلوطة والسليمة، حيث يتبارى الكاتب لتعيين إحدى شخصياته للتصحيح والتأكيد على الانتصار للقِيَم والمُثل الإنسانية السامية التي تشكل الحاضنة الأقدر على استيعاب واحتواء المختلف والعيش في وطن قوامه احترام الآخر والتعاون والتسامح والتعايش، فقد “... كانت عائلة (فيلوثي) عائلة مسيحية، ولكننا في ذلك الوقت كنا مختلطين غاية الاختلاط، نحيا متحابين ولا نلتفت إلى ضجيج المتهورين الذين استحوذ عليهم الشيطان... لذلك لم يكن غريبا أن يحتشد الجيران، على اختلاف مللهم، عند باب ذلك المنزل حاملين الهدايا اليسيرة من القهوة، والملبن، والتوابل، والتبغ...”، كان ذلك قبل أن تعبث السياسة و”ألاعيب إمبراطورية النمسا والمجر وروسيا، فتفسد ما كان بين شعوب البلقان والشرق الأدنى من ترابط وتعايش سلمي طوعي. فظهرت أفكار متهورة، ومذاهب متطرفة تنادي بالتمييز والتفوق العرقي، وتدعو إلى الانفصال... لقد امتزجت تلك الأعراق على مدار قرون طويلة، ولم يكن أحد يسأل عن كونه صربيا أو مقدونيا أو بلغاريا أو يونانيا...”، قبل أن تتحول كل مجموعة تنتمي إلى عرق أو مذهب لتشيطن الأخرى في سلسلة من الممارسات والخطابات والأساليب المثيرة للعصبيات والكراهية والحط من قيمة الآخر، أدت إلى مذابح وعمليات تطهير ومآسٍ إنسانية ومقتل ملايين البشر في مشاهد وصور مقززة عرض لها الكاتب بدقة متناهية، فهذه هي سياسات الدول العظمى والقوى المهيمنة في كل الأزمنة، تستخدم منهج “فرق تسد” وتجعل من المؤامرات مبررا لإشغال المجتمعات والوقيعة بينها، وإشعال نيران التعصب والصراعات، لتكريس المزيد من هيمنتها، وهذا هو ذاته ما صنعته بريطانيا وقامت به أميركا في منطقتنا العربية التي استعصت على الشفاء والتعقل حتى اليوم. لقد نجح الكاتب في تقديم المجتمع بكل خلفياته الثقافية والدينية والاجتماعية ومشكلاته وهمومه وأزماته في براعة يحسد عليها. إلى جانب ذلك فإن الرواية الضخمة ذات الـ700 صفحة تحتشد بالصور البلاغية التي تحتوي كل منها على نموذج لـ”مقولة خالدة” تمثل خلاصة فكر الكاتب وقراءته وتشخيصه لما تناولته صفحات رائعته الأدبية من هموم ومشاكل، فرح وسعادة، تعبيرات وتحولات شهدها مجتمع روايته. “وبينما يحيا بعضنا منفصلا عن واقعه حالما بالماضي، يدرك بعضنا الآخر أنه فقد الإحساس بالواقع والقدرة على العيش فيه. صار التفكر في المستقبل مدعاة للتشاؤم لا التفاؤل، كأننا بلغنا مآربنا واستغنينا عن الحاجة إلى كل جديد، وقصارى أمانينا أن يلفنا سبات عميق يطوي أطراف حياتنا. وإني لأشعر بهذا القلق المنهك”. مطار “بورصة” بسيط والإجراءات فيه سهلة وسريعة، وحركة المسافرين متواضعة، لذلك لم نستغرق أكثر من دقائق لإنهاء الخطوات المطلوبة لمغادرنا إلى داخل المدينة. بالرغم من أن “بورصة” كانت في مرحلة من عهد الحكم العثماني عاصمة للدولة، وهي رابع مدينة تركية من حيث عدد السكان، وعاصمة إقليم “بورصة”، وإحدى أهم المدن الصناعية التركية” في العصر الحديث. فيما يعد مطار اسطنبول ـ الذي انطلقت منه رحلتنا إلى مطار “طرابزون” ـ واحدا من أضخم مطارات العالم، وأبرزها تطورا وحداثة وقدرة على التوسع المتواصل في المستقبل، إنه وحش عمراني بتصاميم عصرية أخاذة، أخطبوط من المتاهات بممراته وقاعاته ومرافقه وأسواقه وردهاته... ويصعب على الإنسان حتى وإن زاره مرات أن لا يتوه في تفاصيل جسده العملاق، إنه أحد المشاريع التي يشار إليها بالبنان ويضرب بها المثال في عهد حزب “العدالة والتنمية”، وقبل يومين من وصولنا إلى هذا المطار التحفة، نشر خبر إعلامي يقول بأن “مطار اسطنبول يحقق رقما قياسيا جديدا بعدد الرحلات والمسافرين في يوم واحد، ٣٢٠ ألف مسافر، بـ١٤٢٢ رحلة دولية وداخلية”. اسطنبول هذه المدينة الاستثنائية موقع استراتيجي، وتاريخ عظيم حافل بالأحداث والتحولات، وحضارة احتضنت ثلاث امبراطوريات، وجمال ومعالم سياحية تبهر العقول وتعبِّر عن الأبهة والفخامة والبذخ والثراء، والتي تشرئب الأعناق للتطواف واكتشاف جسدها الفاتن، والساحرة التي لا يمل المرء من زيارتها ولا يشبع من التمتع برونقها وأناقتها... انطلقت من على أرضها تقاليد العولمة وقِيَم التسامح والتعايش واحترام المذاهب والأديان والأعراق، والانفتاح على الآخر وحرية التجارة... فهي كما وصفها صاحب رواية “طير بلا أجنحة”، “قيل في تلك الأيام: إن المتسكع في شوارع اسطنبول يمكنه أن يسمع سبعين لغة. ففي الإمبراطورية العثمانية الشاسعة... كان هناك يونان مسلمون، وأرمن كاثوليك، ومسيحيون عرب، ويهود صرب.. كانت اسطنبول محور تلك العجلة... وفي ذلك الزمن، كان هناك ما يقرب من مائة وثمانين خانا في اسطنبول، وقفها مسلمون من أهل البر، وفيها يمكن للمرء أن يصل بمتاعه وينام في سلام بإحدى غرفها العليا، وتبيت خيوله في الاصطبلات بالأسفل. وفي باحاتها حدائق غناء ونوافير...”. إنها اسطنبول التي قال فيها “الفونس دو لامارتين”، “إذا لم يكن للمرء سوى نظرة واحدة يلقيها على العالم، لتوجب عليه أن يحدق في اسطنبول”. وفي مقال سابق قبل سنوات كتبت عن زيارتي لاسطنبول “... المكان المشمول بهذه الزيارة كان وما زال محورا تشخص إليه الأبصار، وتتجه إليه الأنظار عند الملمات والأحداث الجسام، ومركزا للقيادة واتخاذ القرارات بالنسبة للقادة والسياسيين، ومثارا للإعجاب والمقصد، ومحركا للتساؤلات الحيوية والنشطة للباحثين والأكاديميين، وملهما للمبدعين والباحثين والفنانين، ومحفزا لهم على الكتابة والبحث والتصوير والرسم وتقديم الإجابات وتفعيل الحوار والمناقشات العلمية والأدبية والإنسانية والحضارية، إنه المكان الذي ينجح دائما في تجديد مكانته الحضارية والإبقاء على موقعه في مصاف ومقدمة العالم، وما تراجعه ووهنه وانزواؤه على مراحل زمنية محدودة إلا شكل من إشكال الاسترخاء والاستثمار والتوظيف والتجديد والاستعداد لجولة جديدة يستعيد فيها المكان حضارته وقوته ومكانته وتأثيره الفاعل...”. البهجة بعيد الأضحى المبارك، تعم الساحات والميادين والأسواق والحدائق والمتنزهات العامة التي تضج بالأسر المحتفلين بهذه المناسبة الإسلامية السعيدة، فيما تغص وسائل النقل بأنواعها بالمسافرين الذين ينتقلون بين المدن والأرياف والقرى، لتهنئة أرحامهم وذويهم، ومشاركتهم فعاليات العيد، ومما لاحظته أن الأتراك يشتركون في أضحية العيد، التي تكون عادة من الأبقار، فيتجمعون في مناطق مخصصة لكل حارة ومربع سكني للذبح وتوزيع حصص اللحم حسب نصيب كل أسرة وفرد، كما توزع حصص من وجبات الأرز المطبوخ باللحم مجانا في العديد من الساحات العامة التي يقدمها فاعلو الخير. فيما الشاي الأحمر والقهوة التركية، هما المشروبان اللذان يدمن عليهما الأتراك، فلا يخلو منزل ولا مقهى ولا مطعم من دونهما، وفي تجمع الأصدقاء والأسر هما المهيمنان على المشهد في احتساء متواصل ومتعة لا تنتهي. وحركة الأسواق نشطة في المدن التركية، والمحال التجارية بأنواعها تغصُّ بالمشترين والمتسوقين، والأقدام تتوقف مرات عديدة بسبب الاختناقات ودرءا من عواقب الاصطدام بالسيل البشري المتدفق.


سعود بن علي الحارثي
[email protected]