فرص السفر والسياحة والاستجمام والتنقل بين العديد من الوجهات السياحية المتنوعة حول العالم، حيث الطبيعة والتاريخ والتراث والثقافة والفنون والعادات والحضارات والبيئة الحيوية الساحرة، والمناظر الخلابة والحدائق والغابات، تجعل من أسفار الصيف فترة تأمل ومحطة انتظار وتقييم، مساحة مستقطعة من عمر الزمن ليتأمل فيها الفرد في ذاته، ويقف فيها على بدائع صنع الله، وعظيم ما وهبه الله إياه، لإعادة قراءة الحياة في ثوبها الجديد وقادمها الباسم المشرق، وطبيعتها العفوية المتصالحة مع البشر، محطة تتجه فيها دلالات تفاصيل الصيف إلى ما هو أعمق من ذلك أثرا وأشد تأثيرا، إذ المسألة لم تعد تقاس فقط بعدد الوجهات السياحية وتنوعها ومدد مكوثه فيها والذاكرة الفوتوغرافية التي رصدتها عدسة كاميرات الهواتف الذكية لتجد لهم في الصفحات الشخصية في المنصَّات الاجتماعية حضورها الواسع وتفاصليها الدقيقة، ليشكل ذاكرة حضارية في إعادة هندسة الذات وفرصة لإجلاء صدى النفوس عبر تعريضها لمواقف محاكاة الواقع وتضميرها من أجل الفوز بالفرص والحصول على الاستحقاقات، وهي استحقاقات باتت اليوم تعكس حجم ما تمتلكه النفس من ضمير المسؤولية الحاضرة والخُلق الحسن، وكيف يجدد فرص الاستفادة مما يمتلكه من مبادئ وقِيَم ومقارنتها أو قياسها مع الواقع ومستوى قدرتها على الصمود والبقاء والتحول وقابليتها للتمازج والاندماج والتناغم مع الواقع، لذلك فكما هو إجلاء لعقدة الروتين ووقوف مع النفس في حب التغيير، فهو أيضا إجلاء لصدأ الذات وفتح المجال الأرحب لها لمزيد من استكشاف جوانب القوة ومواطن القصور وتصحيح ما علق منها من سطحيات التفكير وسلبية الرأي، ثم مقارنتها بما لدى الآخرين، وكيف تتميز عنهم وكيف يحصل على هذه الاستحقاقات عن جدارة، إنها فرصة لتقييم الأخلاق وإعادة ربطها بمواقف الحياة وإنتاجها بطريقة تتكيف مع مشتركات البشر وتتفاعل مع قِيَم الإنسانية وأخلاق الإنسان وتتآلف مع الظروف والأحوال والأزمات والأماكن لتظهر في صلابتها وقوتها، لا تغيرها الأحداث ولا تشوهها المؤثرات.
ومع أن الحديث عن السياحة والسفر لا يحده وطن أو تختصره مسافة، فإنه أيضا لا يرتبط بوجهة سياحية دون غيرها، وتبقى آلية استحسانه ومواصلة أسفاره وتعدد وجهاته وانتقائه مناطقه وبلدانه سلوكا يختلف البشر في تقديره، ويتباين الناس في التعاطي مع أولوياته، ويقف الرهان فيه على الانتقاء والاختيار، ومناسبة الظروف وتقدير الأحوال، وتوفر الإمكانيات وتحقق الأولويات، غير أن ما نؤمن بأهمية وجوبه والتزامه وأن يقترب منه ويتشارك فيه، ويقف الجميع على مسؤوليته نحوه حاضرا ومستقبلا، في الحضر والسفر، والمكوث والتنقل، داخل الوطن وخارجه، هو أن يكون الصيف سفرا للأخلاق وللقِيَم والمبادئ قبل الأجسام، وجاهزية الالتزام بالتعليمات وقواعد السلوك والاشتراطات والإيمان بضرورة استحضارها قبل تجهيز الأمتعة والحقائب، فهي دليل المسافر الأمين ونوره المبين إلى عالم كوني أرحب.
من هنا جاء مقالنا هذا حاملا معه هذه البشارة لأبناء وطني مجسدين في حلهم وترحالهم وحضرهم وسفرهم معين القِيَم وينابيع الخُلق ومواطن الفضيلة ومنهج النصيحة ومبدأ الالتزام، وصدق العمل، وحُسن التوكل، مستلهمين من عاطر الخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم مدد البناء، ومزون الحكمة، ونهج التغيير، فــ”لقد عرف العالم عُمان عبر تاريخها العريق والمشرّف، یانا حضاريا فاعلا، ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال، على إعلاء رايتها، وتحرص على أن تظل رسالة عمان للسلام تجوب العالم، حاملة إرثا عظيما، وغاياتٍ سامية، تبني ولا تهدم، وتقرب ولا تباعد، وهذا ما سنحرص على استمراره، معكم وبكم، لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية”، كلمات حق لها أن تُكتب بماء الذهب، وأن تدوَّن في صحائف الأعمال، وتضمَّن في مناهج التعليم، وتدرَّس في مرافق العلم ومشاعل المعرفة، منهجا للعمل، وطريقا للبناء، وترسيخا للصورة المثلى التي تصنع للشعوب استحقاقات القوة “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا” والتي يجب أن يقرأ فيها أجيال عُمان الحاضرة والمستقبلة طريقهم للعيش في عالم مضطرب ومتسارع في ظروفه ومتغيراته لتبقى لهم الريادة، وتسمو بهم الأخلاق، وترقى بهم الحياة.
وإذا كان العالم قد عرف عُمان في تلك الصورة التي رسمها النطق السامي، فلقد عرف العالم العُمانيون على مدى تأريخهم العريق، بأنهم أهل فضل وكرم، وطيب وخُلق، وحكمة ونهج، واعتدال وتوازن، وفراسة وحدس، وثبات وصدق، وتكافل وتعاون، وتعايش وتسامح، والتي بدورها تجسد هذا التناغم بين ما تحمله هذه الشخصية وما تتطلبه أسفار الصيف، والمعايير التي تحتاجها أي منظومة سياحية لضمان استدامتها وقوتها في احتواء المتغايرات وجمع المتناقضات وإيجاد روح التغيير فيها، لذلك لازمت هذه القِيَم الأصيلة الشخصية العُمانية في كل محطاتها التاريخية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأسهمت هذه المنطلقات في تأصيل الدور الحضاري لسلطنة عُمان، وما حظيت به من موقع الريادة في حقب التأريخ الغابرة، وهي اليوم تمثل محطة لكل المؤشرات الإيجابية والاستحقاقات التي جعلت من السلطنة من أفضل الوجهات السياحية في العالم، ومن أكثر دول العالم أمنا وأمانا، ومن أكثر الوجهات السياحية قبولا لدى العديد من الشعوب حول العالم، وليس غريبا في ذلك أن تحصل سلطنة عُمان لسنوات متتالية على استحقاقات الجاهزية الأمنية والرقم صفر في الإرهاب، وأن تحصل مدينة مسقط على المستوى الثالث بين أجمل مدن العالم، فإن ما ارتبط بالشخصية العُمانية وتشرّبته من قِيَم التعايش الفكري والتعددية والتسامح المذهبي، مكوِّنات أساسية للنموذج العُماني في المؤتلف الإنساني والمشترك القِيَمي، ومحطات رئيسية لإنتاج نموذج سياحي قادر على التأثير واستيعاب الواقع ويجد فيه الآخر المختلف فرصة للعيش والتعايش في ظل الإنسانية، وأخلاق الإنسان ومصداقية المبادئ.
وعليه، فإن إسقاط هذه الصورة التكاملية على شخصية المواطن العُماني وهو يطوف حول العالم متوقفا في مدنه ومعالمه، مستحضرا أخلاق الإنسان وإنسانيته في كل المواقف والمصادفات التي يتعرض لها، أو عبر بناء سلوك إيجابي ومسار أخلاقي واضح في التعامل مع مقوِّماتها الطبيعية المتنوعة وإظهار محاسنها بكل ذوق واحترام قيمتها الجمالية، وتقدير كل الجهود الساعية إلى جعل صفاء هذه البيئة ونظافتها ونقائها وعذوبتها وجمالها ودلالها مرتبط بمساحات الوعي السياحي والسلوك الآمن والشعور بالمسؤولية الشخصية، وفي الوقت نفسه يقرأ في مواقف السفر والسياحة دروسا متعلمة في الحياة وما يمتلكه من مَعين القِيَم ومزون الحكمة وصلابة المبدأ وسمو الخصال، وكيف يمكن أن يوظفها في التعاطي مع المواقف، ويجسدها في قراءة الأحداث والظروف ويتفاعل من خلالها في ظل جسور المودة والرحمة، لإنتاج فرص أكبر تظهر في ما ينتج عنها من تلاقح التجارب والخبرات وتعظيم أثرها في حياة الفرد، ويقرأ في أسفاره ومحطاته تجارب الدول، كيف تحافظ الشعوب على منجزاتها وتستثمر في أرصدتها وتعظّم الإرث الحضاري والقِيَمي والأخلاقي لديها، وكيف تقرأ رصيدها التاريخي والثقافي والقِيَمي للآخرين، وكيف تسوّق له من خلال هذه الممارسات الرصينة والمواقف الحكيمة؛ كونه الرهان الذي يمكن أن يضيف لهذه المبادئ والموجهات التي يجسدها المواطن في أسفار الصيف فرصا وحضورا في قناعاته واهتماماته لصيف آمن بعيدا عن المنغصات والأحزان ليمارس دور المواطن الواعي المثقف المخلص القدوة في نقل قِيَم التسامح والحوار واحترام الضيف وتقديره وتوفير كل التسهيلات له.
ويبقى الالتزام بالمبادئ والأخلاقيات التي أصَّلتها الثوابت العُمانية وارتبطت بشخصية الإنسان العُماني، الحصن الحصين الذي يضمن الالتزام بالتعليمات، والتقيد بالأوامر، والتطبيق لكل المعايير والاشتراطات التي تقرها الدول للقادمين إليها، وعندما تقوى هذه الروح الإيجابية، وتتفاعل هذه الصورة الذهنية المعبرة عن صدق الإنسان ورُقيه الفكري وشغفه بالبحث عن التميز في رحلاته بعيدا عن كل المشوهات، محذرا نفسه وأقرانه من الوقوع في الشبهات، حريصا في تعامله مع المواقف والأحوال، عندها تقوى لديه كل الفرص المعبرة عن جاهزيته للسفر، فهو بذلك يكون قد لبس حزام الأمان، لأمان أدوم، ووضع كل شيء في موضعه الصحيح، في حس أصيل وتخطيط سليم وفكر نيّر وشعور راقٍ، في عمق ما يحمله من مبادئ وأخلاق، فهو سفير بلده إلى العالم، يجسّد سيرتها التي عرفت بها بين العالمين، وصورتها التي علقت في الأذهان وتميزت بها بين مختلف الأمصار، حاملا رسالة السلام والأمان، وداعيا إلى الود والحب والالتزام، ومؤصلا لمنهج التقارب والتواصل مع الآخر في بلدانهم، أو في تعامله مع المنجز السياحي العالمي، واعيا بالخصوصية الثقافية والاجتماعية والحضارية للشعوب، وبصمة التأثير الإيجابية التي يتركها لدى غير العُمانيين داخل وطنه وخارجه، فإن الصورة التي تعكسها أخلاق الإنسان العُماني من جهة، وحكمته في التصرف والتعامل مع المواقف في سفره، أو التزامه بالإرشادات والمسؤوليات التي عليه أن يأتيها، ومستوى الجاهزية لها، واستحضارها في كل المنافذ البرية والبحرية والجوية، وعند دخوله المرافق السياحية، ذاكرة أمة تصنع له استحقاقات قادمة تظهر في حجم التقدير والترحيب الذي سيلقاه في سفره، ورفع مستوى التسهيلات وتبسيط الإجراءات والتعاون والاهتمام التي يجده بمجرد دخوله أراضي تلك الدول.



د.رجب بن علي العويسي
[email protected]