من بَيْنِ أوجه الإعجاز ـ كما سلف في مقالات سابقة ـ الإعجازُ في اختيار الحرف، وما فيه من التشكيلة الصوتية التي تتناسب مع السياق، وتتماشى مع المعنى القرآني المسوق، والدلالة الآنية للآية المتلوة، وهو ـ كما أقول دائمًا ـ أمرٌ خاصٌّ بالقرآن الكريم، حيث يتسم به في كلِّ كلماته وبِنَاهُ وسياقاته وتعبيراته، إذ يتضاهى فيه صوتُ الحرف مع أخيه في نقل الدلالة القرآنية، وإيضاح القيمة التربوية التي يتطلبها هذا السياق، أو ذاك، ونأخذ هنا نماذجَ أخرى إضافة إلى ما سبق، ندلل بها على وجه الإعجاز الصوتي يقول الله تعالى في كتابه العزيز:(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) (طه ـ 108).
المقام هنا مقامُ آخرة، والجميعُ واقفونَ في عرصات يوم القيامة، وكلُّهم مترقبٌ وقائعَ وأحوالَ هذا اليوم الرهيب الرعيب، وكلٌّ مشغولٌ بنفسه، باكٍ على عمره الذي قضاه بعيدًا عن الله، ومَنْ كان عابدًا فإنه كذلك سيندم على تضييع بعض الوقت دونما طاعة أو عبادة، وقد وصف الله عز وجل مشاعرَ الناسِ، وأحوالَهم في هذا اليوم المَهيب بقوله:(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس 34 ـ 37)، والجميع يَبْدُونَ كأنهم مصابون بالدوار، سكارى، يتمايلون من خطورة الموقف، وذهولهم في هذا المقام الأخروي الرعيب، ودخولهم في أحداثه، ووقائعه الخطيرة التي حذرهم الله منها بقوله:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج 1 ـ 2).
وهو الموقف الذي تصطكُّ منه الأقدامُ، وتتضارب الأسنانُ، ويرتعد الجَنانُ، وتنهمر العينانِ، ولا منجَى منه ولا ملجَأ إلا بالله الرحيم الرحمن، فلا أحد يتكلم، ولا يمكنه أن يتكلم، وهو حين يتكلم لا يتكلم إلا بالصواب:(جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا، رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) (النبأ 36 ـ 38)، ويقول الله ـ جلَّ جلاله ـ مُبَيِّنًا أنه لا يتكلم أحدٌ إلا بإذن الله وحده:(يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (هود ـ 105)، فالكلام بحساب، وإذْنٍ، ولا يقال فيه إلا الصواب، والصدق، وإلا الصحيح، وعندها تُلْجَمُ الألسنة.
وسط كلِّ تلك المشاعر، والأحاسيس، وبَيْنَ هذا الخوف، والوجل، والرجاء، والدعاءُ يأتي هذا السياقُ، وهو قوله تعالى:(وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)، فالفعل خشعتْ فيه الخاءُ، والعينُ المنزوية، وفيه الشينُ المنتشرةُ التي تَشِي بانتشار الذلة، والخشوع في عَرَصَاتِ يوم القيامة، والأصواتُ تحمل معنَى القلة، فوزن الأفعال من أوزان القلة، حيث لا يتكلم أحد، فيتناسب الوزن مع دلالته القرآنية المَسُوقَة، ومع كلِّ هذا الموقف المَهُول تأتي صفة الرأفة، وصفة الجمال، والكمال:(للرحمن) لم يقل:(للجبار، القهار، القوي، المتين، المنتقم)، وإنما أتى بصفة الرحمة، والحُنُوِّ ـ جلَّ الله في علاه ـ ما لنا ربٌّ سِوَاهُ، صفة الرحمة في موقف الخوف؛ لتربط على قلوب الخلق، وتبيِّن لهم أنه ربهم، وهو الرحيم الرحمن، وبعدها:(فلا تسمع إلا همسًا)، الفاء هي الفصيحة، أيْ التي تفصح عن شرط مقدر محذوف: (إن كنتَ قد وعيتَ هذا فلا تسمع عندها إلا همسًا)، ويتوالى حرفُ السين، وهو حرفُ همسٍ، لا يكاد يُسمَع، ولا يَشعر بنطقه أحدٌ؛ ليبيِّن خطورة الموقف، وجلال المقام، فالجميع في صمت صامت، وحرف الهاء حرفٌ مهموسٌ، لا يكاد يسمعه صاحبُه أيضا، ناهيك عَمَّنْ هو قريبٌ منه، يسري كما يسرى صوت الليل غير المسموع:(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) (الفجر ـ 4)، والميم في (همسًا) يُغلَق فيها الفمُ، وتلتقي الشفتان منضمةً، فينكتمُ معها الصوت تمامًا، ويترشَّح الصمتُ بتلك السين الأخيرة التي تخرج مهموسةً، غيرَ مجهورة، لا يكاد أحدٌ يسمعها إلا بالكاد ـ كما يقولون.

* د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]