تم تشريد أكثر من مئتي ألف مواطن عربي سوري من الهضبة نحو دمشق ومحافظة درعا ونحو الأجزاء التي لم تحتل من مرتفعات الجولان، وصلت أعدادهم الآن بحكم النمو السكاني إلى نحو نصف مليون مواطن جولاني..


لم تهدأ دولة الاحتلال الإسرائيلي في شن عملياتٍ عسكرية ضد سوريا، خلال الأشهر الماضية، وحتى الآن. ظنًّا منها أن تقوم بخلط مزيدٍ من الأوراق في أزمة سوريا، من جانب. وفي تأكيد سعيها للاحتفاظ بأجزاء كبيرة من الجولان وضمها لدولة الاحتلال.
وكما كان متوقعًا عند المراقبين والمهتمين المتميزين برصانة المتابعة والبحث، فإن مسار عملية التسوية التي انطلقت من مؤتمر مدريد العام 1991 كان بالضرورة مسارًا متعثرًا بين جميع الأطراف العربية ودولة الاحتلال العبرية الصهيونية، نظرًا لتعقيدات “الصراع العربي ـ الإسرائيلي” الصهيوني منذ قدوم الهجرات الاستيطانية التهويدية الصهيونية إلى أرض فلسطين العربية، وإصرار حكومات “إسرائيل” المتعاقبة بعد الإنشاء القسري للدولة الصهيونية على فرض تصوراتها السلمية انطلاقًا من رؤيتها ومصالحها ودورها الوظيفي التحالفي مع الولايات المتحدة الأميركية.
وانطلاقًا من هذه الحيثيات العامة، ونظرًا لخصوصية المسار التفاوضي “السوري ـ الإسرائيلي” في حينها والغائب الآن في سباتٍ عميق، والنابعة من خصوصية الدور العربي السوري في الصراع الدائر أولًا، ومن خصوصية وميزات هضبة الجولان ثانيًا، فإن التقديرات كانت تُشير دومًا إلى صعوبة إحداث اختراقات جوهرية على هذا المسار المجمد أصلًا منذ سنواتٍ طويلة، وصعوبة التوصل إلى طريق يؤدي عمليًّا إلى جسر الهوة بين الطرفين “الإسرائيلي والسوري” في ظل المواقف “الإسرائيلية” المتعنتة، ولغة الصلف والغرور والقوة التي تفاوض دولة الاحتلال الإسرائيلي انطلاقًا منها، ورفضها الاستجابة لاستحقاقات سلام الشرعية الدولية.
ومن يتابع ملف “المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية”، يدرك أن مرد التعقيدات التي تقف على طريق التسوية يعود إلى عدد من العوامل المختلفة أيضًا، يقف على رأسها رغبة “حكومات إسرائيل” المتعاقبة بالاستيلاء على مناطق واسعة من هضبة الجولان وضمها “لإسرائيل”، نظرًا لأهميتها الاستراتيجية الجغرافية، وللأهميَّة المائية، حيث تستهلك الدولة الصهيونية، وحسب تقارير عديدة تتوارد من مراكز “البحث الإسرائيلية” أكثر من 600 مليون متر مكعب سنويًّا من مياه هضبة الجولان، بما يعني أكثر من ربع حاجتها من المياه سنويًّا والبالغة 2000 مليون متر مكعب، فضلًا عن وجود 32 ألف مستوطن فوق أراضي الهضبة يقيمون في 46 مستعمرة، ونواة مستعمرة، وموقعًا استيطانيًّا، وثلاثة مراكز بلدية أهمها مدينة كتسرين على أنقاض أكثر من 220 قرية ومزرعة عربية سورية لم يتبقَّ منها سوى خمس قرى بسكانها البالغ عددهم الآن قرابة 24 ألف نسمة يتواصلون مع ذويهم في سوريا عبر ما أطلق عليه بوادي الصياح في (منطقة عين التينة)، وهو بقعة في مرتفعات الجولان، حيث يذهب السوريون لملاقاة أقاربهم في الجانب المقابل، وعبر الوادي يمكنهم أن يروا بعضهم بعضًا، ويلوحون لهم ولكن ليس من السهل تبادل الحديث، والأشخاص الذين يتمتعون بصوت جهوري يبادرون إلى الصياح، بينما يستخدم الآخرون مكبرات الصوت، وكل ذلك لأنهم مفصولون بعضهم عن البعض الآخر بلفات من الأسلاك الشائكة وحقل ألغام بعرض 300 متر وسياج مكهرب، والقرى الخمس هي: مجدل شمس، بقعاتا، الغجر، مسعدة، عين قنية.
وعليه، تم تشريد أكثر من مئتي ألف مواطن عربي سوري من الهضبة نحو دمشق ومحافظة درعا ونحو الأجزاء التي لم تحتل من مرتفعات الجولان، وصلت أعدادهم الآن بحكم النمو السكاني إلى نحو نصف مليون مواطن جولاني، ومنهم بضعة آلاف من اللاجئين الفلسطينيين الذين لجأوا إلى سوريا ـ الجولان عام النكبة، وأقاموا بشكل رئيسي في حي من أحياء مدينة القنيطرة سمي بحي اللاجئين، إضافة إلى إقامتهم في بلدات: جباتا الزيت، جباتا الخشب، السنابر، البطيحة، الحمة، خسفين، جلين، سحم الجولان، العال، النقيب، فيق، الجوخدار، الزوية، كفر حارب، التوافيق... وغيرها.
فاحتلال الهضبة السورية ليس وليد ظروف معينة، إنما هو طرح صهيوني قديم، حيث تُشير بعض المصادر الموثقة إلى محاولات المتمول اليهودي البريطاني (مونتوفيوري) الذي زار محمد علي باشا والي مصر وبصفته حاكمًا عامًّا على بلاد الشام عام 1838 وعرض عليه استئجار مساحات كبيرة من أراضي حوران والجولان في قرى: سحم الجولان، جلين، تل عميدون، بيت أكار، بيت تيما، خان الشيح... لمدة خمسين عامًا لليهود.
ويدل على ذلك أيضًا ما أشارت إليه المنظمة الصهيونية العالمية في مذكرتها بتاريخ 3/2/1929 إلى مؤتمر السلام في باريس، حيث تحدثت عن أهميَّة الجولان بالنسبة للمشروع الصهيوني وللدولة اليهودية المزمع إنشاؤها. وكانت قد جرت المحاولات الأولى لاستيطان الهضبة عام 1887، أي بعد سنوات قليلة من بناء أول مستوطنتين يهوديتين صهيونيتين في فلسطين على أراضي بلدة ملبس العربية الفلسطينية وسميت باسم “بتاح تكفا”، وعلى أراضي بلدة عيون قاره جنوب مدينة يافا وسميت باسم “ريشون ليتسيون”، إلا أن محاولات الاستيطان في الجولان باءت بالفشل بفعل عدد من العوامل المهمة. وعليه، إن معركة استعادة الجولان للوطن الأُم، لن تنتهي حتى لو تقادم الزمن. فالحق لا يموت.

علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك
[email protected]