إن تعدد الأقطاب سيغير ملامح المعدلات العالمية، خصوصا مع زيادة التطلعات للقوى الكبرى الحليفة لأقطاب الماضي، أو القوى الإقليمية التي باتت ترفض دور التابع وتسعى للاستفادة القصوى من قوتها الاستراتيجية..


لم يعدْ خافيا على أحد وجود صراع عالمي متعدد الأقطاب، عبَّرت عنه العديد من الأزمات، وأبرزه عدد من التحركات السياسية والاقتصادية الأخيرة التي قامت بها القوى الكبرى؛ بهدف جذب المزيد من الحلفاء من القوى الإقليمية، في العديد من الأقاليم الاستراتيجية حول العالم، وأبرزها إقليم الشرق الأوسط الذي كان ولا يزال من أهم الأقاليم التي تسعى الدول الكبرى لعقد أكبر صداقات مع حلفائها في الإقليم، نظرا لأهميته الاستراتيجية على الصعيد السياسي والاقتصادي معا. لكني أعتقد أن ملامح هذه التحركات والتحالفات الجديدة القديمة لن تكون على نفس التطلعات المرجوة منها، فالعالم بتفاعلاته الجديدة يتجه نحو تغيير، لكنه تغيير لم تظهر تفاعلاته بعد، ولم تتضح معالم نتائجه، لكن الأكيد أن القادم سيشهد نهاية لسياسة القطب الأوحد، التي أثرت على العالم أجمع في العقود الثلاثة الأخيرة، وظهرت تداعياته الاقتصادية والسياسية في كافة أقاليم العالم.
إن تعدد الأقطاب سيغير ملامح المعدلات العالمية، خصوصا مع زيادة التطلعات للقوى الكبرى الحليفة لأقطاب الماضي، أو القوى الإقليمية التي باتت ترفض دور التابع وتسعى للاستفادة القصوى من قوتها الاستراتيجية، بشكل يغاير لما كان يحدث بعد نهاية الحربة الباردة. فالأزمات التي خلفتها القطبية الأحادية، خصوصا على الصعيدين السياسي والاقتصادي، جعلت تلك القوى التي التهمت مقدرتها الرأسمالية المتوحشة التي سادت لعقود مضت، والتي دخلت في صراعات إقليمية تنفيذا لمصالح وأطماع القوى الكبرى الوحيدة المتمثلة في الولايات المتحدة، التي سعت طوال سيادتها للعالم، على افتعال صراعات تضمن مصالحها في كافة الأقاليم حول العالم، باتت أكثر سعيا للتوجُّه نحو مصالحها، وربطت تحالفاتها بتلك المصالح، وبدأت بوادر تدرك أن هذه الصراعات ليست لصالح الإقليم، لكنها صراعات فرضتها الدول الكبرى لتنفيذ أجندة تضمن سيادتها العالمية.
ولعل ما يؤكد هذا التوجُّه من القوى الإقليمية يتمثل في أن التحركات الأخيرة من الدول الكبرى، لضمان ولاءات الحلفاء، قد طرأ عليها تغيير طفيف، وأعتقد أنه سيغير المعادلة الإقليمية، بل والعالمية في المستقبل المنظور، فالقوى الإقليمية باتت أكثر طموحا للعب دور محوري، يتخطى دور الوكيل الذي كانت تلعبه، وباتت أكثر وعيا من أن الصراعات السابقة التي كانت تدخلها بالوكالة عن الحليف العالمي لم يأتِ منها الجدوى المطلوبة، بل إنها استنزفت مواردها، وأهدرت توجهاتها التنموية في العقود الأخيرة، كما أن ظهور أقطاب أخرى في المعادلة بشكل متوازن، أوجد خيارات أخرى لتلك الدول، وجعلها تملك أدوات أكثر في التفاوض مع القوى الإقليمية، ولم يعد الولاء مجانيا أو لمجرد حماية الأنظمة كما كان قبل ذلك، فالإرهاصات وإن كانت لا تزال في بدايتها، لكنها شكلت وعيا عالميا جديدا.
وعيا عالميا لن يؤثر فقط على القوى الإقليمية الكبرى، لكنه تجلى في تباين المصالح بين الحلفاء الكبار، فالأزمة الفرنسية الأميركية، ورغبة ألمانية في أن يكون الأوروبي قطبا حقيقيا، أظهر أن الحلفاء يسعون لدور أكبر، وأن الشكل القديم لم يعد كافيا لهم، فقد أظهرت الأزمات الأخيرة حجم التباينات في المصالح، خصوصا في المعسكر الغربي، ويبقى تطلع روسيا والصين نحو إنهاء الهيمنة الأميركية، أكبر من إظهار التباينات فيما بينهما، ويبقى لنا أخيرا أن نؤكد أن الإقرار بحدوث تغيير نوعي على المستوى القصير، وحتمية التغيير المستقبلي لا يؤكد حجم أو شكل هذا التغيير على المعدلات العالمية والإقليمية، فالتجارب السابقة في نهوض وأفول الأمم، وتشكل الأقطاب العالمية، يعتمد على تفاعلات تأتي بنتائج تغير الواقع بأقطابه، وتفرز قيادة عالمية غير متوقعة، فبريطانيا العظمى احتاجت لحربين عالميين التهمت مقدراتها، للتنازل عن القيادة مع غريمتها فرنسا، وأفرزت تلك المرحلة من التاريخ قوى الاتحاد السوفيتي وأميركا، اللذين كانا الأقل تضررا من الصراع، في حين دول مثل الدولة العثمانية وألمانيا، اللذين دخلا الصراع للقضاء على الهيمنة البريطانية الفرنسية، كان مصيرهما أسوأ مع نهاية الصراع، لذا علينا الترقب، وعدم الانغماس في صراع لا ناقة لنا فيه ولا جمل، اللهم إلا لمصالح الوطنية، التي علينا حمايتها واكتساب المزيد منها، دون أن نكون طرفا في هذه المعادلة أو تلك، فتجارب التاريخ تؤكد أن الحياد، وربط العلاقات بالمصالح، هما ضمان الخروج من تلك الصراعات بأقل خسائر وأعلى مكاسب.

إبراهيم بدوي
[email protected]