كل ما علينا فعله هو أن نعلم أن هناك آلاف المفكرين المنتمين لعروبتهم وملايين العرب المؤمنين بثقافتهم وقضاياهم وحقوقهم، وأن نوصل الثقافي بالسياسي، وأن تكون كتابة التاريخ بأيدينا، وأن نستمع إلى قصصنا ونقرأها ونكتبها لتشكِّل مرجعية وجودنا..


في واقع إقليمي ودولي تتنازعه الأنباء التي تبث التشاؤم عن الغد والتعبير بأشكال مختلفة عن العجز لتغييره وجدتُ في مكتبة الأسد الوطنية ولقاء “أدباء من أجل العروبة” تداعوا إلى دمشق من اثني عشر بلدًا عربيًّا فسحة من الأمل وجرعة لتصحيح ما يبثه الأعداء والمطبعون معهم من موجبات الإحباط والخيبة. جلست ساعات أستمع إلى لغة عربية جزلة وأشاهد بأُم العين قامات فكرية وأدبية متجذرة بعروبتها ومقاومتها وقضاياها لا تخشى في الله لومة لائم، ولا تحسب حسابًا للمهرولين والمطبعين الخانعين للعدو ولا تقيم لهم وزنًا.
استمعت إلى أصوات تجشمت عناء السفر في واقع عربي رديء جعل الرحلة بين الأشقاء أصعب من الوصول إلى قارات بعيدة لتقول أتينا إلى سوريا ليس من أجل حضور اجتماع فقط، وإنما لنقول نحن مع سوريا الفكرة ومع سوريا الحضارة ومع سوريا التاريخ. استمعت إلى الصوت الحيّ من فلسطين قادمًا من رام الله ينسج التاريخ والانتماء والمقاومة والموقف بلغة يُدخل عشقها في قلوب السامعين، ولكل الأصوات الأخرى التي صدحت نثرًا وشعرًا وانتماءً وتألقًا في سماء عروبة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
وتساءلت وأنا أشعر أنني أعيش اللحظة الحلم: من قال إن سوريا وحيدة؟ ومن قال إن العروبة لا تنبض في وجدان هذا الشعب الحي من المحيط إلى الخليج الذي لا يأبه بحدود سايكس بيكو وبما يريده المهرولون والمطبعون وأصحاب المصالح الضيقة بل ينهل من معين ثرّ مستند إلى تاريخ عريق ولغة عربية بينة لا تعرف الحدود بين شرق هذا الوطن وغربه ولا تعترف بما يخطط له الأعداء مع صغار المستسلمين وأراذلهم. شعرت أنني في حضرة وجدان الأمة وضميرها وأني أستمع بخشوع إلى صوتها الحقيقي ينادي: “بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان”، وتذكرت شكوى عدد من إعلاميي الوطن الكبير من التصحر في الفكر والمفكرين العرب وتساءلت كيف يمكن أن يكون هناك تصحر مع كل هذه القامات الفكرية والثقافية ومع كل هذا الإيمان بالوطن الكبير والمستقبل الأفضل؟!
وبعد يومين من المتابعة فهمت المعادلة؛ مثل هذا اللقاء المهم والمعبِّر عن وجدان الأمة يبقى حبيسًا في القاعات التي يُعقد فيها ومقتصرًا على المعنيين به دون أن تفرد له وسائل الإعلام الناطقة بالعربية التي يتحكم بها العدو وأتباعه أي مساحة على الإطلاق ودون أن تصل هذه الأصوات النبيلة إلى أسماع وأرواح المؤمنين بها والتواقين لسماعها، بينما يفرد الإعلام نفسه مساحات شاسعة لتوافه الأمور، وحتى الإعلام العربي المستقل بإرادته يتابع الأخبار عن اقتراف البعض لخطيئة التعامل مع عدو ينكل بأهلنا وشعبنا ويمارس أبشع أنواع العنصرية في فلسطين، وحيثما تمكن من فعل ذلك حتى وإن كان هذا بهدف الانتقاد فهو يرتدّ خيبة ووهنًا وإضعافًا للسامعين والمتلقين فيتوهمون وكأن الجميع يتسابقون لصعود قطار التطبيع بينما هم قلة قليلة مهما كانت مواقعهم فهي لا تشكل شيئًا من الحصن المنيع والمعين الثرّ الذي يستند إليه أبناء الضاد وينهلون منه ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا.
وتوصلت بعد التفكير المعمَّق إلى معضلة أخرى وهي أن هؤلاء المعنيين بالشأن الثقافي والفكري والأدبي والشعري يشكلون فئة لا تتعاطى غالبًا مع الشأن السياسي الصرف ولا تعتلي المنابر للحديث عمّا تتعرض له هذه الأمة من مؤامرات تحاول دبَّ الفرقة بين أبنائها والوهن في مفاصلها الأساسية مع أن التحدِّي الذي نواجهه اليوم هو تحدٍّ شامل يبدأ من استهداف اللغة إلى استهداف الفكر والعلماء، إلى استهداف العيش المشترك، إلى استهداف الوحدة الوطنية للبلاد، إلى استهداف العروبة في كل أمصارها بشتى الأساليب والطرق. ولا أوضح مثالًا على ذلك من أن العدو الصهيوني يبدأ سجاله التطبيعي أولًا وقبل كل شيء بالمطالبة بتغيير المناهج التعليمية واستهداف العلماء والمفكرين المنتمين لأوطانهم حيثما كانوا لأنه يعلم علم اليقين أن أجيالًا تتربى على الأصالة والانتماء والمواطنة الحقَّة لا يمكن لها أن تسير في ركبه. وأدركتُ حينئذ أننا نختصر جبهاتنا في الوقت الذي يجب أن نوسعها حتى تشمل كل الميادين الحيوية التي تصبّ في شدِّ أزر الدولة والأمة.
حين يدرّس العرب في مناهجهم سير حياة القامات التي تصدَّت للعدوان والاحتلال على مرِّ الزمن، وحين يكتبون قصص أبطالهم الوطنيين لتكون أساسًا لمناهجهم المدرسية، وحين يحيون ذكرى كل من ضحَّى وقاوم واستشهد وجُرح في سبيل قضيته فهم يعزِّزون الانتماء ويحصِّنون الأجيال من اليأس والاستهتار والانشغال بالشخصي والصغير بدلًا من القضية والوطن. وحين يدبُّ الأعداء سموم ثقافتهم عن الخلاص الفردي وعدم جدوى العمل من أجل قضية كبرى لأن لا أحد بقي في الركب ليعين ويستعين فهم يكذبون أولًا الكذبة الكبرى، ويستهدفون تقويض جذر المقاومة في النفوس ثانيًا. لكي يعرف المؤمنون بقضاياهم أنهم ليسوا وحيدين أبدًا ولا معزولين نهائيًّا لا بُدَّ أن يقوم الإعلام بدوره الحقيقي في إفراد مساحاتٍ مهمَّة لكلِّ ما يحيي الروح والنفس والوجدان وإهمال كل الأكاذيب والتلفيق المعادي الذي يستهدف الهمم ويشنُّ حربًا نفسية قذرة هدفها كسب المعركة قبل أن تبدأ.
إنَّ ما يدسُّه كيان الاحتلال الإسرائيلي من أكاذيب عن قوته وقدرته على تطوير البلدان وسطوته في عدد من البلدان العربية وعلاقاته المتنامية ما هي إلا أوهام تضاف إلى أوهامه التاريخية والتي يدحضها الواقع المعاش، ونبض أهل فلسطين وأسراها وأطفالها ونسائها ومقاتليها، ونبض هذه الأمة التي لا تموت أبدًا. كل ما علينا فعله هو أن نعلم أن هناك آلاف المفكرين المنتمين لعروبتهم وملايين العرب المؤمنين بثقافتهم وقضاياهم وحقوقهم، وأن نوصل الثقافي بالسياسي، وأن تكون كتابة التاريخ بأيدينا، وأن نستمع إلى قصصنا ونقرأها ونكتبها لتشكِّل مرجعية وجودنا، وأن نقتبس من مرجعياتنا الفكرية والأدبية والتاريخية لا من مرجعياتهم المعادية التي تستهدف وجودنا، وأن نعلو فوق الجراح، ونؤمنَ أننا شعب لديه ما يؤهله للاعتزاز بانتمائه القومي وتاريخه المجيد والعمل الجاد من أجل مستقبل لا يتمكن حفنة من الأعداء والطغاة وصغار النفوس الخانعين من رسم علائم مساره مهما حاولوا.
كلُّ ما علينا فعله هو أن نسلِّط الضوء على وجدان الأمة، لا على المخترَقين الصغار، وأن نكون جميعًا حاضرين في كل المجالات نبني قلاعًا تربوية ثقافية أدبية فكرية إعلامية مع الإيمان المطلق أننا نحن الباقون وهم الزائلون.


أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية