بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، انتهت الحرب الباردة، وتحدث المفكر الاقتصادي الأميركي فوكوياما عن نهاية التاريخ وصدام الحضارات، والحديث الآن عن نهاية الأيديولوجية، على اعتبار العالم بات أكثر تركيبا وتعقيدا..

كثير من البسطاء العرب، الذين يتعاطفون مع روسيا في حربها ضد أوكرانيا والغرب، عندما تسألهم عن سبب اتخاذهم هذا الموقف، يردون باستنكار، طبيعي أن ننحاز لروسيا التي وقفت مع العرب في صراعهم مع إسرائيل، ومع الدولة التي صدرت لنا الاشتراكية التي وفرت الحماية الاجتماعية للفقراء في مواجهة الإقطاعيين والرأسماليين، وساعدتنا في بناء القطاع العام الذي وفَّر لنا آلاف الوظائف المستقرة، وكان سببا في تمكين وصعود الطبقة العاملة، وتأمين احتياجاتها من السلع والخدمات، عن طريق كوبونات الدعم وبطاقات التموين، هذا النظام الذي استوردناه من روسيا التي ظلت حليفا مخلصا للأمة العربية.
طبعا هناك خلط بين الاتحاد السوفيتي السابق الذي تفكك في العام 1991 على يد ميخائيل جورباتشوف، وروسيا الحديثة التي ورثت الاتحاد السوفيتي بعد استقلال 13 دولة عنه، وأهم ما ورثته القوة العسكرية النووية، لكن ما لا يعرفه هؤلاء أن روسيا تحولت عن الشيوعية والاشتراكية إلى الرأسمالية، ووصف زعيمها فلاديمير بوتين الشيوعية بأنها زقاق مسدود بعيد عن التيار الرئيسي للحضارة، وأن التطور التدريجي كان سيخدم روسيا بشكل أفضل من اضطرابات عام 1917 “يقصد الثورة البلشفية” التي يرى أنها دمرت الدولة وسحقت ملايين البشر، وألقى باللوم على قائدها فلاديمير لينين في التسبب بزوال الاتحاد السوفيتي في نهاية المطاف، ووصفه بأنه وضع قنبلة موقوتة في قلب الدولة التي أسسها على أساس عرقي، وأطلق عليه لقب الخائن كونه فجر حربا أهلية في الوقت الذي كانت روسيا تحارب عدوا خارجيا في الحرب العالمية الأولى.
ورفض بوتين حضور احتفالات الحزب الشيوعي بمئويته في العام 2017م، وأعلن أن مثله الأعلى هم القياصرة العظام الذين حكموا روسيا قبل استيلاء الشيوعيين على السلطة، خصوصا بطرس الأكبر، الذين أسس الامبراطورية الروسية القيصرية. وعلى عكس الشيوعية التي حاربت الأديان، فإن بوتين مسيحي أرثوذكسي متدين، تربطه علاقة وطيدة برأس الكنيسة الأرثوذكسية البطريرك كوريل، الذي يسانده في حربه ضد أوكرانيا، ويرى بوتين أن الكنيسة ملأت الفراغ الأخلاقي وغياب القِيَم الذي ساد روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، انتهت الحرب الباردة، وتحدث المفكر الاقتصادي الأميركي فوكوياما عن نهاية التاريخ وصدام الحضارات، والحديث الآن عن نهاية الأيديولوجية، على اعتبار العالم بات أكثر تركيبا وتعقيدا، بحيث تعجز وجهة نظر واحدة التعامل مع كل المشكلات على وجه الأرض.
ومع قدوم الرئيس الجمهوري ترامب، نشأ موقف آخر، يرى أن الولايات المتحدة لا يعنيها كثيرا كيف تحكم الدول الأخرى، وأقام ترامب علاقات حميمة مع الحكام الذين كان يصنفهم الغرب ديكتاتوريين، مثل الزعيم الكوري الشمالي كيم يونج أون، وكان الرئيس الصيني وزوجته أول الزائرين له في منزله الخاص بولاية فلوريدا، وفي عهده تراجع العامل الأيديولوجي كثيرا في العلاقات الدولية، حتى جاء خلفه الديمقراطي بايدن الذي أشهر مرة أخرى سلاح الأيديولوجية الليبرالية، في مواجهة ما أسماه السلطوية، وتحديدا الصين التي أصبحت بالفعل قوة عظمى لها استراتيجية محددة للنفاذ على العالم من خلال مشروع الحزام والطريق، بعدما لفظت الأيديولوجية الماوية القديمة، واستبدلتها بلغة الاقتصاد والمصالح المشتركة.
وفي مواجهة الانتقادات الأميركية لنظام الحكم وسجل حقوق الإنسان في الصين، أصدرت الصين مؤخرا وثيقة تعبِّر عن وجهة نظرها في الديمقراطية ونظام الحكم لديها، الذي ترى أنه حقق نجاحا وإنجازا، واستطاع أن يضع الصين ذات المليار و400 مليون نسمة في مصاف الدول العظمى، وتحدثت الوثيقة عن الديمقراطية الشعبية في ظل الحزب الشيوعي الصيني، باعتبارها نموذجا جديدا للديمقراطية، متحدية التعريف الاحتكاري للغرب والولايات المتحدة للديمقراطية، والتي لم تنكرها كلها، وإنما تشير إلى مجتمع واسع النطاق في العالم يمارس الديمقراطية الشعبية الكاملة، وقارنت الوثيقة بين الإنجازات التي حققتها ديمقراطية الصين، وبين مخرجات النظام الديمقراطي الغربي، والتي ترى أنها أدت بأميركا والغرب إلى حالة الركود الاقتصادي الذي تعانيه شعوبها في السنوات الأخيرة، بسبب التفاوت الطبقي وفرط الاستهلاك والتطرف في الرفاهية.

محمد عبد الصادق
[email protected]
كاتب صحفي مصري