«.. وإذا كانت الصيغ والهياكل القومية التي أسسها جيل منقرض من القيادات تتآكل وتتحول إلى بقايا طللية تستحق أن تجمع غبار الزمن على رفوف المتاحف، فلا بُدَّ من صيغ بديلة تتناغم مع نظام عالمي مختلف، نظام يعمل بإيقاع من نوع جديد.»


هل هناك ثمَّة شك لدى أيِّ مراقب أو متابع في أن ما يُسمَّى بـ”النظام العربي المشترك” إنما يغير وظائفه وشكله، ثم يستحيل ويتحور هذه الأيام بسرعة عجيبة، وهي سرعة “ضوئية” لا يمكن إلا أن تأتي على أنساقه وهياكله الأصل التي أرسى أسسها جيل مختلف، وذلك في عالم لم يشهد أفول سطوة الكولونياليات القديمة (البريطانية والفرنسية، خصوصًا) فقط، ولكن شهد صعود السطوة الأميركية التي ما لبثت وأن وضعت قواعد هيمنة كونية جديدة للعبة الأمم المختلفة المصالح والمتنوعة الحكومات والأهداف.
قد لا يعي البعض هذه التغيرات الجذرية المتواصلة بغير انقطاع نظرًا لتحجر تفكيره ولبقائه حبيسًا في زنزانة ماضٍ، في مخاض لا يريد زائلًا ولمستقبل لا يريد الولادة، ولا يقوَى عليها.
وإذا كانت الهياكل القديمة المتآكلة السابقة تعجز عن الأداء الفاعل، فإن أهم ملاحظاتي، هي: أن هذا الهوان والإخفاق يفتح الأبواب واسعة، ليس للإبداع أو للابتكار المحلِّي، بقدر ما يشرعها للتدخل الأجنبي، ذلك التدخل الوافد الذي يقول لسان حاله: “ما دمتم غير قادرين على اتخاذ المبادرة التاريخية، اسمحوا لنا أن نعاونكم ونبادر بها نيابة عنكم، ولكن ليس بالصيغة التي تتمنون ولكن بالصيغة التي نفضلها والتي تخدم مصالحنا، معتمدة “الواقع العملي” المتمثل بوجود إسرائيل وبفاعلية دورها الإقليمي والدولي الذي لم تتمكنوا من إجهاضه قط!”
وإذا كانت الصيغ والهياكل القومية التي أسسها جيل منقرض من القيادات تتآكل وتتحول إلى بقايا طللية تستحق أن تجمع غبار الزمن على رفوف المتاحف، فلا بُدَّ من صيغ بديلة تتناغم مع نظام عالمي مختلف، نظام يعمل بإيقاع من نوع جديد. ولجميع الرجال والنساء العرب، من جيلي خصوصًا، أن يستقروا متأكدين حدَّ التيقن بأن أبناءهم وأحفادهم لن يستمعوا للغة وللبلاغيات التي اعتدنا عليها والتي لم تفضِ إلى شيء يذكر: ولهم أن يتوجهوا نحو العلوم والإجراءات العملية والمصالح الحقيقية، بدلًا عن هدر طاقاتهم بأحلام ماضٍ عصيٍّ على الإحياء والتجدد.

أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي