يقال بأنك إن أردت أن تتعرف على ثقافة أي مجتمع، وحجم الرصيد الذي يمتلكه من التوازن الشخصي والسلوكي، ومستوى اتجاه هذه الثقافة ومدى قابليتها للتكيف مع مستجدات الواقع اليومي، وتقيس مستوى النضج الفكري والثقافي والوعي الاجتماعي والحس الأمني المشترك لدى مواطنيه في الالتزام والهدوء وحكمة التعامل مع الأزمات والظروف الصعبة، وامتلاك ثقافة إدارة الحشود واحترام الأدوار والثقة وحس المسؤولية وحُسن الاستخدام للإمكانيات والفرص، والتقيد بالتعليمات واتباع القوانين وحس القيادة وروح التجديد، فعليك أن تراقب ممارسات مواطنيه على الطريق، فهي مرآة عاكسة لثقافة المجتمع وصورة مصغَّرة لهذه الثقافة، ذلك أن الطريق سواء في كونه بنية أساسية صلبة وما يرتبط بها من بُنى ناعمة، يُمثِّل منظومة متكاملة في أبعادها الاجتماعية والأخلاقية والقيمية والإنسانية والقانونية والتشريعية والإدارية والفنية، وتتفاعل في إطار تشكيلها الكثير من الأحداث والمعطيات والمؤثرات والمتغيرات، والتي في مجملها العامة تقدم صورة متكاملة دقيقة لثقافة مواطن منتج.
وبالتالي فإن وجْه مقاربة الممارسة على الطريق بثقافة المجتمع، ناتج عن كون الثقافة تعبيرا عن ممارسات الناس وأساليبهم في التعامل، والعيش المشترك مع الأحداث والمستجدات، وقدرتهم على التكيف مع معطيات الواقع في ظل ما يُمثِّله الطريق من بيئة يومية تتسم بالحركة الدائمة والنشاط المستمر، الذي بدوره يولد الكثير من التفاعلات اليومية، سواء على مستوى مستخدمي الطريق، والحوادث اليومية البسيطة، أو الازدحام، الأمر الذي يعبِّر عن حالة من الحوارات والتفاعلات الهادئة، أو الشد والجذب التي يعيشها مستخدم الطريق في ظل تصرفات البعض وممارساته المستهجنة، ولما كانت الممارسة على الطريق تُمثِّل حالة إنسانية في الأساس، ويرتبط الوضع المروري الناتج عنها بمستوى الوعي والثقافة المتأصلة في قناعات الفرد وعقله الباطني في تجاوز تحديات الطريق، فإن ذلك يعني الحاجة إلى توليد روح التغيير في مستخدم الطريق بطريق أكثر احترافية ومهنية والتزاما وأمانا وتبنِّي موجهات استباقية ووقائية تحفظه من مساوئ الطريق.
وإذا كانت الثقافة على الطريق تعني، جملة القواعد والأنظمة والقِيَم والأخلاقيات التي يلتزم بها قائد المركبة أو مستخدم الطريق بكل اختيار ورغبة واقتناع، وفي ظل محددات واضحة ومعطيات تفرضها الحالة المرورية؛ فإن الالتزام بجودة هذه الممارسة والارتقاء بسقف التعبير عنها وتجسيدها في شخصيته يأتي ترجمة صادقة لفهم أعمق لمحتوى هذه الممارسة والمحافظة على مكاسبها واستحقاقاتها في واقع حياة مستخدم الطريق، بما يضمن تجاوز إشكالياتها وبناء مناخات التصالح الذاتي والسلام الداخلي مع الطريق والمركبة واحترامهما بشكل يشعر فيه الجميع بمسؤوليته نحو جعل الطرق سالكة آمنة تستوعب كل التجاوزات التي تحصل فيها، وعندها تصبح ثقافة الممارسة على الطريق دليل وعي المجتمع، وقمة تحضُّر أفراده، ونُضج فهمهم لمتطلبات الحياة، وشعورهم بأن الطريق حياة للجميع وحق عام يجب أن يتعامل معه الجميع بمعايير الذوق والمهنية والمسؤولية، مستحضرا البُعد القانوني والمساحة الحقوقية في حفظ حق الآخرين في الطريق، ويؤصل في المجتمع والأسرة والأصدقاء من خلال هذه القناعات مفاهيم إيجابية في التعايش مع الطريق، وعندها سوف تبرز في الواجهة صورة أخرى في الممارسة أكثر انضباطا والتزاما وفق قواعد وأسس ومحددات، تصنع نماذج إيجابية للممارسة الواعية، وتتحول ثقافة الالتزام بتحقيق ممارسة رصينة يحكمها التزام مستمر من مجرد الرهبة من الأنظمة والقوانين، إلى حياة متجددة وقيمة إنسانية تتفاعل معها مكوِّنات العقل الباطني للإنسان قلبه وفكره ومبادئه.
ويبقى إسقاط هذا السلوك على ثقافة المجتمع مرهونا أيضا بمقوِّمات ومؤشرات أخرى، فمثلا هناك الكثير من القِيَم والمبادئ التي تنشأ من ثقافة التعامل مع الطريق أو أن تكون الممارسة على الطريق هي السبيل لإعادة هندستها في سلوك الفرد وتحويلها من عادة إلى التزام ومسؤولية وواجب أخلاقي، وبالتالي إبراز مفهوم أعمق لإنسانية الطريق في استخدام أرصفته وحاراته وأكتافه، بما يقدمه من قيمة حياتية لا يستغني عنها أي فرد ولا ينكر أهميتها إلا جاحد، وفي الوقت نفسه حسن الاستخدام للمركبة وتقدير قيمتها الحياتية المضافة، بما تحققه من فرص الاتصال والتواصل وسهولة التنقل والانتقال وقضاء الاحتياجات اليومية، بل ما يمكن أن تؤسسه فيه من شكر النعمة والانتقال من كونها مجرد مساحة للرفاهية إلى كونها فرصة لإعادة تقييم الممارسة على الطريق وتصحيح المفاهيم المغلوطة نحوها وتأصيل الممارسة التأملية وإعادة تقيم الذات وما تمنحه لمستخدم الطريق من روح التغيير التي تطول فكره وقناعاته في امتصاص التحديات ومهنية التعاطي مع المواقف سواء تلك المتعلقة بالطريق ذاته أو التي تمثل شخصية السائق وقناعاته والأبعاد النفسية والمزاج العام لديه، وتعظيم قِيَم الصبر والتحمل وتقدير الأمور والتريث وعدم إصدار الأحكام وضبط النفس وتهذيبها، ومنعها من استخدام كل ما يؤثر سلبا على حياته وحياة الآخرين أو يلقي به في التهلكة كاستخدام الهاتف في الاتصال أو إرسال الرسائل النصية أو التجاوزات من المنعطفات، أو السرعات غير القانونية، أو كذلك ما يسقطه على المركبة من تشوّهات قد يكون لها تأثيرها على قيادة المركبة.
وعليه، فإن قدرة المجتمع على التكيف مع معطيات واقع الطريق ومستجداته وتحسين أبجديات الممارسة اليومية على الطريق دليل على امتلاكه ثقافة التوازن، القادرة على التعايش مع معطيات الواقع اليومي بما فيه من تحديات ومواقف وظروف وعوائق لتشكل لديه الرصيد الثري الذي ينتقل فيه من مسألة التعامل المجرد مع الطريق ونجاحه فيه لذاته، إلى كونه مساحة ألفة ومحطة استراحة تستنطق القِيَم والمبادئ والروح الإيجابية والسلوك الحسن لتنعكس على مجريات حياته اليومي، وعندها يصبح الطريق مدخلا لبناء الثقة وفرصة لإعادة هندسة السلوك، ففي بيئة العمل يؤسس فيه حس المهنية في التعامل والحرص والالتزام وإدارة وقت العمل اليومي وحسن استخدامه للمهام وتعاطيه مع الضغوطات اليومية وتفاعله مع مستجدات الوظيفية ومتطلباتها وامتلاكه للسيناريوهات والبدائل والخيارات التي تتيح له فرصة أكبر لإنجاز كفؤ وعمل مبهر، وهذا الأمر ينطبق أيضا على الحياة الأسرية، إذ كلما كانت ممارساته على الطريق تتسم بالهدوء والأريحية واستشعار الوضع الحالي وتقبل الظروف وامتلاك مهارة الانتظار بانجلاء الازدحام، وحس الاستمتاع بمكوِّنات المركبة، واستشعار الفرص التي تحققها في حياته كلما انعكس ذلك بالإيجاب على علاقاته الأسرية واحتوائه لظروفه الاجتماعية وتكيفه مع متطلبات الأسرة فلن يكون للازدحام أثر على فساد استمتاعه مع أسرته، وقضاء بقية اليوم معهم في ضحك وابتسامة وفرح ومرح وصفاء ونقاء.
لم تعد الممارسة على الطريق حالة مستقلة بذاتها أو تغرد خارج سرب حياة الإنسان بل ملاصقة له لكون استخدام المركبة والطريق لم يعد ترفا مجتمعيا بل ضرورة حياتية، كما لم تعد الممارسة على الطريق مساحة مزاجية للفرد يتفاعل معها ويلتزم قواعدها بحسب تحقق غاياته الشخصية، بل التزام أخلاقي ينقل الفرد من أنانية الذات والتفكير الشخصي إلى الشعور بالآخر واحترام الإرادة الجمعية وتقديرها واستشعار روح التحوُّل التي تنتج عن تكاتف العمل نحو سبر هذا الواقع بأفضل الممارسات وأنجع الحلول وأقوم السلوكيات، لذلك تنتفي صفة الخصوصية الذاتية المزاجية إلى مفهوم أعمق للانتماء للمجتمع واحترام الإرادة وتقدير الإنجاز، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، لذلك كان لاستحضار الوعي والخلق والمزاج الراقي أهميته في التعامل مع الطريق، إذ عندما يفكر قبل خروجه من بيته بمساوئ الطريق ويسقط مسببات التأخير في خروجه من المنزل على أهل بيته فينازع ويصارخ ويتعامل مع الأمر بحالة من السخط والقلق سيكون لذلك أثره المستمر على الفرد وإلى حين وصوله، ما يعني أن الصورة الذهنية التي ينبغي أن يُمثِّلها الفرد حول الطريق سوف يكون لها أثرها في قدرته على تجاوز أحداثه أو التكيف مع معطياته أو إدارة السلوك اليومي في استخدامه للمركبة وتعامله مع موظف محطة تعبئة الوقود مثلا، أو تجاوز مركبة أخرى له أو غير ذلك من الممارسات المستعجلة، إنها معادلة يجب أن يضعها مستخدم الطريق أمام تمحيص حقيقي ومراجعة ذاتية واستشعار بالقيمة المضافة المترتبة على التزامه المصداقية في ممارساته على الطريق وعندها يصبح رقيب ذاته، والمحاسب لتصرفاته، والمقوِّم لاعوجاج سلوكه حتى لا يؤذي نفسه وغيره في حوادث مفجعة وأحداث مؤلمة وازدحام مروري يؤخر الناس عن مصالحهم.
أخيرا، فإن الرهان اليوم على هذه الممارسة، الطريق الذي يمكن خلاله بناء ثقافة مجتمعية قادرة على صناعة التحوُّل في الواقع، فإن قدرة الفرد على الانطلاقة من هذا المدخل، وصدق التعبير لديه في جعله منطلقا لممارسة أفضل وسلوك أخلاقي أدوم، سوف يصنع له استحقاقات قادمة، لتصبح ممارساته على الطريق رسالة حياة لن يخذلها بتصرفات عوجاء وسلوكيات حمقاء، وشاهدة إثبات على ما يحمله في إنسانية الطريق ويجسِّده من نموذج حضاري راقٍ يصبح مصدر فخر للمجتمع وتعبيرا عن ثقافته العُمانية في تسامحها وسلامها الداخلي والخارجي، وتوازنها واعتدالها وحوارها وتكيفها مع الواقع وإنسانيتها التي صنعت لعُمان وشعبها القوة حتى كان لها في العالمين ذكرا، وفي ما يعيشه العالم اليوم من أحداث وتحوُّلات حضورا وهيبة.

د.رجب بن علي العويسي
[email protected]