بمناسبة الاحتفاء بنزوى عاصمة الثقافة الإسلامية

تغطية ـ سالم بن عبدالله السالمي:
حمد الأغبري: المحاضرة تبرز دور العمانيين في مختلف علوم المعرفة
بمناسبة الاحتفاء بنزوى عاصمة الثقافة الإسلامية أقيمت صباح أمس بقاعة الشهباء بجامعة نـزوى محاضرة بعنوان "الإِنْتَاجُ العِلْمِيُّ العُمَانِيّ في مجالات الزِّراعة والعِمَارة والطِّبِّ والفَلَك، والتي نظمتها اللجنة الرئيسية للاحتفال بنزوى عاصمة الثقافة الإسلامية ذلك تحت رعاية سعادة الشيخ حمد بن سالم بن سيف الأغبري والي نزوى وبحضور المدعوين من مختلف المؤسسات وأساتذة الجامعة وغيرهم. وقد ألقى سعادة الشيخ والي نزوى أشار فيها إلى أهمية المناسبة التي تحتفي السلطنة بها وتتربع نزوى على قائمة تمثيلها، كما أن المحاضرة بحد ذاتها تعنى بموضوع مهم يبرز دور العمانيين في مختلف علوم المعرفة وخاصة في مجالات الزِّراعة والعِمَارة والطِّبِّ والفَلَك، والتي بلا شك سوف تكون ذات مضامين ومعلومات مفيدة للجميع.
بعدها قدم الباحث سلطان بن مبارك الشيباني محاضرته مبينا في بداية حديثه بأن الإِنْتَاجُ العِلْمِيُّ العُمَانِيّ في مجالات الزِّراعة والعِمَارة والطِّبِّ والفَلَك ملف حضاري منسي، سُوِّدَتْ فيه صفحاتٌ بقيتْ رهينةَ الغُبار، ودُوِّنَتْ فيه مصنفاتٌ ظلت حبيسةَ الخزائن، وهذه المحاضرة محاولةٌ لإبراز هذا الملف الحضاري، وتسليط الضوء على الإسهام العماني في العلوم التجريبية تدوينا وتحريرا، وأهم العلماء البارزين في هذه الفنون، مع التركيز على استعراض حضور التجربة العملية في نتاجهم، وجوانب إبداعهم في هذا الجانب. وحتى لا أخوض في مقدمات طويلة تُغَيِّبُ جوهر الموضوع، وحتى لا أدخل في سَرْدٍ جاف مُمِلٍّ يستعرض أسماء مؤلَّفاتٍ وقوائمَ مُصَنِّفين؛ ارتأيتُ أن أنقل لكم صورةً حية من التجربة العلمية العمانية في هذه الحقول. والتجربة هي أساس الإبداع في هذه العلوم، ولأجل ذلك صنّفها المكتبيون ضمن العلوم التجريبية أو التطبيقية، تُقابلها علوم بحتة تعتمد جانب النظر في دراستها وتطويرها. و«يُعَدُّ التوصُّل إلى المنهج العلمي التجريبي الرصين في البحث - والقائم على القياس والاستقراء، والمستند إلى المشاهدة والتجربة - إضافةً إسلاميَّة مهمة لمسيرة العلم في العالم»، وأدَّى تطبيق المسلمين للمنهج التجريبي على النظريات السابقة إلى اكتشاف الكثير من الأخطاء التي توارثها العلماء على مدار قرون متتالية. وكانوا كثيرًا ما يفترضون الافتراضات الجديدة، ثم يختبرونها حتى يتحوَّل الافتراض إلى نظرية، ثم يختبرون النظريَّة حتى يثبت لهم في النهاية أنها أصبحت حقيقة. وفي سبيل هذا كانوا يُجْرُون الكثير من التجربات دون ملل. ومن مطالعاتنا للتراث الإسلامي نجد أن علماء المسلمين حرصوا على الرسوم التوضيحية في الكتب العلمية، ورسوم الآلات والعمليات الجراحية، والخرائط الجغرافية والفلكية المفصلة. والواقع يشهد أن العالم الحاذق قادر على تحويل العلوم البحتة إلى تطبيقية إذا أخضعها للتجربة، وأن العلوم التجريبية قد تنقلب علوما بحتة إذا لم ينفح فيها صاحبُها رُوحًا حية. ولأجل هذا نجد تداخلا بين هذه العلوم، وتعددا في وجهات النظر في تصنيف مؤلفاتها. ولندخل مباشرة في الملف العماني لنقول: إن التجربة كانت حاضرةً بقوة فيه، وإن النتاج العماني في هذا الجانب أكثره راجع إلى ممارسة ومتابعة، بل ربما لم يعتنوا بتأثير هذه العلوم وتدوينها قدرَ اعتنائهم بتداول الخبرة فيها وتناقلها أبًا عن جَدّ.
ارتباط الإنسان العماني بالزراعة
وقال في محاضرته بأن الإنسان العماني ارتبط بالزرع ـ وخصوصا النخل ـ ، فحَدَّث «الأَصْمَعِيُّ عن أبي عَمْرو بن العلاء قال: رأيتُ أَعْرَابِيًّا بِمَكَّةَ فاسْتَفْصَحْتُهُ، فقلتُ: مِمَّن الرَّجُل؟ قال: مِنَ الأَزْدِ. قلتُ: مِنْ أَيِّهِمْ؟ قال: مِنْ بَنِي الحدّان بن شَمْس. فقلتُ: مِنْ أيّ بلاد؟ قال: مِنْ عُمَان. قلتُ: صِفْ بلادَك. فقال: سِيفٌ أَفْيَحُ، وفَضَاءٌ صَحْصَح، وجَبَلٌ صَلْدَح، ورَمْلٌ أَصْيَح. فقلتُ: أخبرني عن مَالِكَ. فقال: النَّخْل. فقلتُ: وأين أنتَ عن الإبل؟ فقال: كلا؛ إنَّ النَّخْلَ أَفْضَلُ. أَمَا عَلِمْتَ أنَّ النخل حِمْلُها غِذَاء، وسَعَفُها ضياء، وكَرْبُها صِلاء، ولِيفُهَا رِشَاء، وجِذْعُها غِمَاء، وقُرْؤُهَا إِنَاء!. فقلتُ: وأنَّى لَكَ هذه الفصاحة؟ فقال: إنا بِقُطْرٍ لا يُسْمَعُ فيه ناجِخَةُ التيار». ونظرا للعلاقة الحميمة بين العماني والنخلة أثرت في الكتب القديمة اصطلاحات خاصة بالعمانيين في هذا الشأن، كالتنبيت والتحدير والخراف والجداد (أو الجذاذ) والدراك والطناء والدوس والكناز. ومن الشواهد على ذلك قول أبي حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني (ت255هـ) في (كتاب النخلة): «وأهلُ عُمَان يسمون شراء الثمار الطِّناءَ (ممدود). يقال: أَطْنَيْتُها (مخففة) إذا بعتها. واطّنيتها (مشددة الطاء) إذا اشتريتُها». وللنخيل أحكام كثيرة حفلت بها المصنفات العمانية. ومما هو داخل في علوم الزراعة ما نجده من أبواب مفصلة عن المزارعة والمساقاة وحرث الأرض في كثير من المطولات الفقهية، كما نجد أبوابا أخرى في أحكام إحياء الأرض الموات وزراعتها. وشهدت الرموم ـ وهي الأرض الخراب - حضورا كبيرا لدى فقهاء عمان، وعقدوا لها فصولا مطولة في كتبهم، تدل في مجملها على حرصهم الشديد على تنظيم الاستفادة منها وضرورة إصلاحها. ويندرج تحت هذا الجانب حرص العمانيين على تقسيم حصص المياه وعدم التعدي فيها، والاستفادة من الماء الفائض، وغير ذلك مما يتصل بالآبار والعيون والأفلاج، وفي هذه الأخيرة أثرت سجلات مخطوطة توضح قسمتها وتوثق حصصها، عرفت بنسخ الأفلاج. والأفلاج بحد ذاتها نظام ري يتداخل تصنيفه بين علوم الزراعة والهندسة والفلك، لما فيه من أساليب إبداعية أتقنها العمانيون وتوارثوها عبر الأجيال. وأشير في آخر حديثي عن علم الزراعة عند العمانيين إلى ثلاثة مصنفات درست علم النبات، ورصدت أسماء الأشجار المزروعة بعمان وفوائدها واستعمالاتها الطبية، فلا تُعْدَم من تداخُلٍ في موضوعها بين الزراعة والصيدلة وعلم البنات البحت وعلم الخواص المندرج تحت علوم الأسرار. وأولها كتاب الشيخ ناصر بن جاعد الخروصي (ت1262هـ) المسمى: «السر العلي في خواص النبات بالتصريف السواحلي» ؛ الثاني: كتاب «كنوز الأسرار في علم الأشجار والأحجار بلغة أهل السواحل وعمان»؛ تأليف الشيخ: محمد بن جمعة بن سعيد بن عيسى المغيري (ق13هـ)، الساكن الجزيرة الخضراء بالشرق الإفريقي. سرد فيه أسماء الأشجار دون ترتيب معين، وعدد فوائدها الطبية (مع الخلط بينها وبين خصائصها الروحانية أحيانا)، وهو يذكرها بأسمائها العربية والسواحلية، كما يقيد أماكن وجودها في عمان وزنجبار والجزيرة الخضراء، بل ذكر مشاهداته لبعضها في أرض مركة من الصومال. وينص على كثير من الأدوية المجربة. الثالث: كتاب «هداية الأخيار إلى مناهج الأسرار» ؛ تأليف الكاتب: عبد الله بن حمود بن حامد العذالي، كتبه بخط يده بمسقط سنة 1361هـ، وضمنه مشاهداته بنفسه وما طالعه وعاينه في بلدان عمان المختلفة، واستفاد من مرافقته للشيخ إبراهيم بن سيف الكندي في معرفة أسماء النباتات وخواصها. والكتب الثلاثة تشترك في توثيق النقل بالتجربة، وتصديق الخبر بالعيان. ويعد الجبل الأخضر بعمان مصدر نباتات كثيرة لا توجد بغيره، وتكون محط أنظار علماء النبات كما رأينا.

علم العمارة مع العمانيين
ثم تحدث عن علم العِمَارة فقال: ما قلناه في الزراعة يقال عن العمارة من حيث شح المصنفات العمانية في هذا الجانب، وضرورة تسليط الضوء على التجربة العملية. ولئن كان المقدسي في القرن الرابع الهجري في كتابه (أحسن التقاسيم) يذكر أن: «جامع المنصورة - وهي من إقليم السند - مثل جامِعِ عُمَان» فلا ريب أن تكون للعمارة العمانية سمات تميزها منذ عصور قديمة. ولنبدأ بتخطيط المدن، فإن التراث العماني يدل على وجود معايير عند العمانيين لاختيار موقع المدينة أولا، ثم تحديد مواضع المرافق الأساسية فيها كالمسجد والسوق والفلج ومسكن الحاكم أو الوالي والضواحي والبساتين. ولا شك أن وراء ذلك عقولا هندسية عَفَا عليها الزمن ولم يقيد لنا أسماءها. وتقف القلاع والحصون العمانية اليوم شاهدة على عمارة إسلامية رصينة محكمة، وليت التاريخ حفظ لنا أسماء مهندسيها وبنائيها، فإن إحكام صنعتها دليل على براعة الصانع، يقول الإمام السالمي في تحفته واصفا حصن جبرين: «وكان من أعاجيب الزمان، وقد بناه (يعني الإمام بلعرب) من صلب ماله على ما قيل، لأن الأموال قد كثرت في أيامه وأيام والده قبله، حتى كادت أن تفيض البيضاء والصفراء من أيدي الناس، وذلك لبركة العدل وفضل الجهاد، ولذلك أقبلت الأئمة إلى تشييد الحصون والمعاقل، وإجراء الأنهار وغرس الأشجار وإحياء المواتات، ليعيش فيها الناس بأرغد عيش وأتم نعمة، فبنى والده قلعة نزوى وهي الشهباء، وبنى هو حصن يبرين، وبنى ابن أخيه حصن حزم، والثلاثة من أعاجيب الزمان، حتى قيل إن حصن جبرين لا يستطيع أحد أن يصفه بجميع ما فيه، ولو فكر فيه شهرا كاملا بإمعان النظر التام.

علم الطب عند العمانيين
وفي علم الطب تحدث الشيباني عن ذلك بالقول: أُصَدّر كلامي عن علم الطب عند العمانيين بعبارة نفيسة ذكرها ظهيرُ الدين البيهقي (ت564هـ) في كتاب (تاريخ حكماء الإسلام)، نصُّها: «كانَ أَبُو الخَيْرِ أَثْنَى عَلَى العُمَانِيّ، وقَالَ: هُو أَقْوَى أهْلِ الزَّمَانِ في صناعته. ومِنْ كلماتِهِ قَوْلُهُ: حَقٌّ على المرء أَنْ يُوَكِّلَ مَعَهُ كَالِئَيْنِ: أحدُهما يَكْلَؤُهُ مِنْ أمامِهِ والآخَرُ مِنْ وَرَائِهِ، وهما عقلُه وأخوه الناصح. ما يَنْفَعُكَ في ذاتك فاطْلُبْه، وإنْ لم يَكُنْ فيه افتخار، وما يَضُرُّكَ في الدنيا والآخرة فاتْرُكْهُ وإنْ كان به افتخار. مَن اسْتَبَدَّ بمُعالجته في حالِ مَرَضِهِ وإِنْ كان طبيبًا حاذِقًا فقد يُعَرِّضُ للخطأ بجهده. والاستشارةُ أداةٌ كاملة». إذن بدأت عناية العمانيين بالطب منذ القديم. لكنها لم تكن عناية كبيرة، يُصَوِّر ذلك الطبيب راشد بن خلف بن محمد بن عبد الله بن هاشم العِيني الرستاقي (ق10هـ) بقوله: «إني نظرت في كثير من كتب أهل عمان فوقفت على علم الأحكام والأديان ولم أقف على نظم لهم في علم الأبدان». وذكر تقسيم العلوم إلى أصنافٍ ثلاثة: علوم الأديان، وعلوم اللسان، وعلوم الأبدان. مُشيرًا إلى أهمية علم الطبّ المندرج تحت علوم الأبدان، وأنه لم يطلع على نظمٍ فيه، مع وقوفه على منظوماتٍ كثيرة في علوم الأديان واللسان. ثم برز أواخر القرن العاشر الهجري وأوائل القرن الحادي عشر مجدد علم الطب وحامل لوائه ومحيي آثاره: الطبيب البارع راشد بن عميرة بن ثاني بن خلف الهاشمي العِيني الرستاقي؛ المتفنن في تدوين علم الطب بأساليب شتى وطرق متنوعة، بين النظم والشرح والمجربات والمطولات والمختصرات. منها: كتاب (فاكهة ابن السبيل)، ومختصره، وكتاب (منهاج المتعلمين) للمبتدئين، ألفه لابنه عميرة، و(مقاصد الدليل وبرهان السبيل)، ورسالة في الكي بالنار، وأرجوزة مع شرحها في تفصيل مراحل عمر الإنسان منذ الطفولة ثم الشباب ثم سن الكهولة انتهاء بالشيخوخة وسن الهرم.

عناية العمانيين بالفلك
كما تناول علم الفلك حيث كانت عناية العمانيين بالفلك عناية قديمة، وأكثر حصيلتهم العلمية في ذلك نابعة من تجربة، ومبنية على خبرة ودراية ومراقبة لحركة النجوم ودورة الشمس والقمر. وهذا يتجلى في تطبيقات فلكية عديدة تحفل بها حياة العمانيين، كتحديد اتجاه القبلة بواسطة الشمس نهاراً وبالنجوم ليلاً، وحساب مواقيت الزراعة الموسمية بالنجوم، والاهتداء بالنجوم في الأسفار، وحساب حصص الأفلاج وقسمتها. ولأجل هذا كان علم الفلك مقصد الفلاحين والبحارة والرحالة ووكلاء الأفلاج والفقهاء والأطباء وعلماء الأسرار. ومن أبرز فروع علم الفلك: علم الميقات. ويرادفه بالمصطلح العصري علم الحساب الفلكي. وقد اصطلح الفلكيون العربُ على وضع تسميات لأجزاء الزمن من الهيئة الفلكية، فالدقيقة من أصغر أجزائه، وكل أربع دقائق درجة، وكل ثلاث عشرة درجة منزله، والمنازل عند أكثر علماء الفلك ثمانية وعشرون: الشَّرَطانِ، والبُطَيْن، والثريّا، والدَّبَرَانُ، والهَقْعَة، والهَنْعَة، والذراع، والنَّثْرَةُ، والطَّرْفُ، والجَبْهَةُ، والزُّبْرَة، والصَّرْفَةُ، والعَوَّاءُ، والسِّمَاك، والغَفْرُ، والزُّبَانَى، والإكليل، والقلب، والشَّوْلَةُ، والنَّعَائم، والبَلْدَةُ، وسَعْدٌ الذَّابح، وسَعْدُ بُلَع، وسَعْدُ السُّعُود، وسَعْدُ الأَخْبِيَة، والفَرْغُ المُقَدَّم، والفَرْغُ المُؤَخَّر، والرِّشَاءُ.