لقد تصدرت مفاهيم التهميش والاستخفاف والافتراق في مزاحمة للقِيَم الإنسانية القائمة على التضامن والتعاضد والأثرة الحسنة. ولك أن تحصي خيبات الأمل التي تتحدث عنها الأمم المتحدة ليتبين لك كم هو حجم الشرخ الذي ضرب المنظومة الدولية..

يستحوذ مفهوم إدارة الاختلالات الآن على العديد من الأسبقيات في ظل إخفاقات قائمة بدأت تغزو العالم في متواليات من الاستنساخ العنقودي والتكيف مع الواقع بصورة غير مسبوقة وبانفلات متكرر رغم المهارات التقنية عالية الدقة التي تمتلكها البشرية، ويكفينا هنا مثال واحد فحسب؛ كيف استطاع (كوفيد19) أن يُربك ويُحدث اختلاطات، بل وعجز في الانسيابية الوقائية والعلاجية اليومية لدول كانت تعتقد أنها في منأى من حصول خرق في منظوماتها الصحية المعتمدة مما اضطرها إلى إعادة النظر بالعديد من أولوياتها المعرفية في هذا الميدان.
هناك الآن قائمة من الاختلالات بأوصاف (النقصان، الفجوات، العجز، الغياب، المغالبة، شراء الوقت) تقابلها منصَّات لإدارة تلك الاختلالات، ترتكز على فكرة التصدي والمواجهة باليات تفتيت، أو عزل، أو احتواء، وهو أكثر الآليات شيوعًا.
صحيح أن الاختلالات لم تكن وليدة الوقت الحالي، لكنَّ حضورها الجامح أعطاها الكثير من فرص الهيمنة غير المسبوقة، وإذا كانت المتغيرات التي أصابت الطبيعة تقف وراء العديد من هذه الاختلالات، فإن مسؤولية الإنسان في أحداثها ليست قليلة أصلًا.
إن نزعات الإفراط الاستهلاكي والدورات المتكررة والمتفاقمة للبحث عن الرفاه على حساب القناعة، والنسيان المتعمد وغير المتعمد، تتصدر الآن أولويات الاهتمام البشري مع الأسف وقد دفع ذلك إلى الوقوع في دورات متتالية من الاحتكار والنيوإمبريالية والتفريط.
لقد تصدرت مفاهيم التهميش والاستخفاف والافتراق في مزاحمة للقِيَم الإنسانية القائمة على التضامن والتعاضد والأثرة الحسنة. ولك أن تحصي خيبات الأمل التي تتحدث عنها الأمم المتحدة ليتبين لك كم هو حجم الشرخ الذي ضرب المنظومة الدولية، إزاء ذلك تعددت الأيام السنوية التي أطلقتها المنظمة الدولية لمواجهة تلك الاختلالات، من مكافحة الإرهاب إلى مكافحة الاتجار بالبشر مرورًا بالتطرف والتهجير والاختفاء القسري إلى الصراعات الحدودية والنزاعات الاقتصادية إلى التزييف بالمعلومات والغش الصناعي والسطو على حقوق الملكية والفساد، والعوز المناعي (الايدز)، والمشاغلة على بدع غريبة بذريعة الحرية الشخصية، وأزمات الفقر والتجويع وتفاقم الحاجات الغذائية والشراهة في الطعام، والشحة في المياه الصالحة للاستخدام البشري، تلوث البحار والمحيطات، النقص المتواصل في التنوع الأحيائي، التراجع الهائل بالكساء الأخضر أو ما يسميه بعض خبراء البيئة (مجازر الغابات)، وكذلك الابتلاء بما يعرف (أجيلة السلعة) حيث صارت للسلعة أجيال في حين يُعد الناس الذين لا يخضعون لسطوتها متخلفين، مجسات النفوذ على الطرق التجارية العالمية، أوضاع الجماعات المهمشة، صراع الهويات الاثنية، التوترات والخصومات الحدودية التي تصل إلى حد الدخول في نزاعات مسلحة على بضعة أمتار.
بخلاصة عددية، هناك الآن أكثر من 216 مناسبة سنوية تتبناها منظمات دولية، على رأسها الأمم المتحدة، وقد تم تشريع لوائح عمل وقوانين وبروتوكولات تصب باتجاه مقارعتها وتحصين البشرية ضدها.
السؤال الجوهري: هل أفلت الزمام؟ وهل باتت المعالجة الجذرية (في خبر كان) كما يقول المثل العربي أم أن هناك فرصًا متاحة للإصلاح والمراجعة؟
نعود إلى ما بدأنا به ولنتوقف عند المسؤولية التي لا يمكن للإنسان أن يتخلى عنها مهما كانت هناك صعوبات (الصراع من أجل البقاء) والجدل البنيوي الأزلي للإمساك بشرف المسؤولية لصالح اللحظة التاريخية، وليس لصالح الاستهمال أحد الأمراض الاجتماعية المستعصية.
لقد زرت اليمن عام 1987 موفدًا من وزارة الثقافة والإعلام العراقية آنذاك، وحظيت بضيافة محافظ مأرب حينها الأخ (ادريهم) وتجولت بين آثار سد مأرب الذي يعود تاريخ تشييده إلى الألفية الأولى ق.م.، وراج لي أن أسأل نفسي: هل كان بوسع اليمنيين أن يمنعوا انهيار السد وتجنب الكارثة؟ بمعنى مضاف لو أن القائمين على إدارتهِ أخذوا بنظرية التحسب لمواجهة تفككه، أجزم لو أنهم فكروا بذلك ما حصل الانهيار، فوفق المعلومات التاريخية أن السد تعرض إلى تصدعات انشغل اليمنيون عن معالجتها لسنوات طويلة مما أدى إلى انهياره.
بخلاصة استنتاجية، يظل التحسب للاختلالات، واحدًا من أسبق المقاييس الضامنة لقدرة الإنسان على تفكيكها.

عادل سعد
كاتب عراقي
[email protected]