إنه لكي ينجح أيُّ عمل من الأعمال: صغُر، أو كبُر لابد له من دراسةُ جدوى، ودراسة الجدوى في أيِّ مشروع مَّا ـ كما يقول أحد الكتاب ـ هي تحليل يأخذ في الاعتبار جميعَ العوامل ذات الصلة بالمشروع، بما في ذلك الاعتبارات الاقتصادية، والتقنية، والقانونية، والجدولة؛ وذلك للتأكد من احتمالية إكمال المشروع بنجاح، ودون خسارة تُذكَر، ويستخدم مديرو المشاريع دراسات الجدوى تلك لتمييز إيجابيات، وسلبيات تنفيذ المشروع قبل أن يستثمروا فيه الكثير من الوقت، والمال، ويديروا في عقولهم، ولقاءاتهم، ودراساتهم كلَّ ما يمكن أن يتصل به من قريب أو بعيد، ويحسبوا كل متطلباته، وتكاليفه، وينظروا نظرة متكاملة لتبعاته، وأعبائه، وأرباحه، وخسائره، ويضعوا كل الإمكانات، والطاقات، ويحسنوا استثمارها بصورة دقيقة، ويختاروا للعمل فيه كل تقنية، ومهارة، واحتراف، وخبرة، ويحشدوا كل تلك الأمور في سبيل إنجاح مشروعهم هذا، وقيامه عزيزًا، شامخًا على قدميه، ويجتهدوا ما وسعهم الجهدُ في سبيل النهوض به، مستغلين كلَّ ما يمكن، وما تصل إليه أيديهم من أشخاص، وإمكانات، وتقنيات، وطاقات متاحة، ويسهروا عليه حتى يروا بعد ذلك نتائجَه، وتوابعَه، ونجاحاتِه الكبيرةَ.
فهي دراسة الجدوى تقوم ببساطة على تقييم التطبيق العملي لخطة مَّا، أو مشروع مَّا مقترح، وتراها تسأل هنا، وتتساءل هناك: هل هذا المشروع يمكن أن ينشأ؟، وهل لدينا الأشخاص ذوو الكفاءة، والأدوات التي ينهض به قويًّا، وهل نملك التكنولوجيا، والموارد اللازمة لنجاح هذا المشروع؟، هل سيحقق لنا المشروع العائد على الاستثمار الذي نحتاج إليه، ونتوقعه؟، وهل هناك عقباتٌ يمكن أن تظهر لنا، وما هي تلك العقبات؟، وهل يمكن تجاوزها، والتغلب عليها؟، كل ذلك يدخل في إطار دراسة الجدوى، ويتداول في الأوساط المتخصصة.
هذا ما حدث بالفعل في تلك الهجرة المباركة، حيث نظر الرسول الكريم حوله، ودرس جميع الشخصيات، وعرف كل ما تحسنه، وما يمكنها القيامُ به وفق طبيعتها، وتخصصها، وطاقتها، وقدراتها، فوجد أبا بكر، وتيقن أن بيت أبي بكر هو خير البيوت لأن ينهض بهذا الأمر الجَلل، وتلك المهمة الكبيرة من عمر الإسلام ومراحله، فاختار أبا بكر صاحبًا له في الهجرة، فهو رجل محبوب لديه، وأبو بكر محِب لشخصه الشريف أيما حُبٍّ، وهو مؤتمن، وشريف في قومه، له مكانتُه، يحب الله، ورسوله، ووضع كلَّ ما يملك لله ـ جلَّ جلاله ـ وسبق سيدَنا عمر في ذلك، وهو شديدُ الحب، والولاء، والمودة للرسول الكريم، وهو علم على كتمان السر، ورجلُ المواقف الكبيرة، والنبيلة، فاختاره الرسول الكريم، وشرَّفه بأن يكون رفيقَه في الرحلة المباركة بكل مراحلها، ووصفه الله بأجمل الصفات، وهي الصحبة وما أدراك ما الصحبة؟!، حيث الصاحب الكريم، وحيث جمال وجلال الصحبة، وتمام الوفاء، قال الله تعالى:(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة ـ 40).
فكان أبو بكر قد مثَّل شريحة الرجال ذوي الحكمة، والهدوء، والتؤدة، ورباطة الجأش، والرجولة، والنخوة، والكرم الشديد، وحاول أبو بكر أن يتحمل أموال الرحلة كاملة، ولكنَّ الرسول أبى إلا أن يدفع ثمن الراحلة كاملة دون نقصان.
فكان أبو بَكْرٍ ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ أَقْرَبَ النَّاسِ إلى النَّبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ فهو رَفِيقُه في هِجرتِه، وهو أعظَمُ هذه الأُمَّةِ إيمانًا، وتَصديقًا، بحيثُ لو وُزِن إيمانُه بإيمانِ النَّاسِ كلِّهم- لَرَجَح إيمانُه، فكان اختيارًا موفَّقا، وبه نجحتْ أحداث الهجرة الأولى حتى نهايتها، حيث بيَّنتْ قُوَّةِ العَلاقةِ بيْن الرَّسولِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ وصاحبه المختار بعناية أبي بَكْرٍ ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ وصِدْقِها، فتَحْكي أمُّ المؤمنينَ عائشةُ ـ رَضيَ اللهُ عنها ـ أنَّ النَّبيَّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ كان يَأتي بَيْتَ أبي بَكْرٍ الصديق ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ في أكثرِ الأيامِ، وكان ذلك في أوَّلِ مَبعَثِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ وهو بمكَّةَ، وكان مَوعِدُ زِيارتِه إمَّا في أوَّلِ النَّهارِ عندَ طُلوعِ الشَّمسِ، وإما في آخِرِ النَّهارِ عندَ غُروبِها، فَلمَّا أَذِنَ اللهُ تعالَى لنَبيِّهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ بالهِجرةِ إلى المدينةِ، فاجأَهُم بِزِيارةٍ في وقْتِ الظُّهرِ، حيث التهابُ الشمس، وحرُّ الظهيرة، والناسُ مكنونة في بيوتها، لا يستطيع أحدٌ تحمل لأولاء الشمس، فكان اختيارُ الزمن عاملًا كبيرًا في التخفي، وعدم علم أحد من المشركين بهذا التحرك، ممَّا جَعَلَ آلَ بيت أبي بكر هم أنفسهم يَرتاعونَ، ويَفزَعونَ، وعَلِمَ أبو بَكْرٍ ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ أنَّه ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ لم يَأتِ في هذا الوقتِ غيرِ المعتادِ إلَّا لِأَمْرٍ عَظيمٍ قدْ جدَّ له، ووقَعَ، ولِخُطورةِ أَمْرِ الهجرةِ على حَياةِ النَّبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ وصاحبِه، أرادَ أنْ يَنفرِدَ بأبي بَكرٍ ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ لِيُخبِرَهُ، وألَّا يَحْضُرَهم أحدٌ فيما سيُخبِرُه به رَسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ وهذا من دواعي نجاح أيِّ عمل، وخصوصًا إذا كان يترتبُ عليه أمر خطير، وفي معنى الحديث:(استعينوا على أموركم بالكتمان)، فأخْبَرهُ الصِّدِّيقُ ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ بأنَّه لا يُوجَدُ سِوى ابنتَيهِ: عائِشةَ، وأَسْماءَ ـ رَضيَ اللهُ عنهما ـ فأخْبَرَه النَّبيُّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ أنَّه قد أُذِنَ له ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ في الهِجرةِ إلى المدينةِ.
ولَمَّا كان أبو بَكرٍ ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ يَترقَّبُ هذه المَكرُمةَ منذ زمن بعيد، وهذه المَنْزِلةَ العَظيمةَ، ويتمناها كل لحظة، فقد طَلَبَ صُحْبةَ النَّبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ ومُرافَقتَه في حدث الهِجرةِ، مع عِلمِهِ بخُطورةِ هذهِ الرِّحلةِ، فوافَقَ النَّبيُّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ على مُصاحبتِه في الهِجرةِ، وقدْ كان نَبيُّ اللهِ ـصلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ يَستَبقيهِ في مكَّةَ، ولم يَجعَلْه يَخرُجُ مع مَنْ خَرَجوا إلى المدينةِ، رَغبةً في صُحبتِهِ، وهو من تتمة النظرة الثاقبة، والمحيطة بإمكاناته، وقدراته، وطاقاته التي أثمرت وصولهما الآمن إلى المدينة المنورة آمِنَيْنِ، سالميْنِ، غانميْنِ.
وكان أبو بَكرٍ ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ قدِ اشتَرى، وأعَدَّ ناقتَينِ له، وللنَّبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ فلمَّا حانَتِ الهِجْرةُ عرَضَ إِحداهُما على النَّبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ فقَبِلها النَّبيُّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ ولكنْ بِقيمَتِها، ولم يرض الرسول الكريم مطلقًا أن يدفع ثمنها أبو بكر، وعلَّمنا أن الدعوة نحن الين يجب أن نصرف عليها، لا أن نأكل منها، وأن نبذل لها الطارف والتليد، والنفس والنفيس، وألا نتكل على أحد أبدا، وأن نتحمل كل تبعاتها، وتكاليفها حتى تصل إلى بر الأمان، والتوفيق.

* د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]