قرائي الكرام.. قد تكلمنا في المرة السابقة عن السيدة أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وأنها اجتهدت حتى وصلت إلى المدينة، فلم يسكت أهلها ـ كما ذكر غير واحد منهم (ابن هشام في (السيرة)، ت: السقا 2/ 325): قال ابن إسحاق:(وهاجرت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في تلك المدة، فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة، حتى قدما على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي بينه وبين قريش في الحديبية، فلم يفعل، أبى الله ذلك).
وقد لاحظنا أن النساء اشتد بهم الإيذاء كما اشتد بالرجال ولنا في السيدة سمية أم عمار وزوجة ياسر أعظم المثل على الصبر والجلد والذين جعلاها أول شهيدة في الإسلام، فكم أشد بالمسلمين البلاء وزلزلوا زلزالًا شديدًا.
(وكم كان يلقي من يجيب رسول الله من الذل والضرب والهوان والتجويع والتعطيش والجفاء والسبّ وأصناف المكاره التي يطول شرحها، وهي مذكورة في مواضعها، معروفة لا يشك أهل العلم فيها. حتى يكون مثل عثمان بن عفان مع كثرة ثروته وصلته لأرحامه وشرف رهطه وحلمه وأناته لا يمكنه المقام بمكة، ففرَّ إلى أرض الحبشة ومعه رقية بنت رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ وكذلك جعفر بن أبي طالب وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان أم المؤمنين، وفرَّ الزبير مع شرفه وشجاعته، ومن شئت من الوجوه والأشراف فما أمكنهم المقام وهذه حالهم، فكيف بالموالي والفقراء وقريش تطلبهم، وتعبر البحار في طلبهم)(تثبيت دلائل النبوة 2/ 349).
ومن الأمثلة أيضًا على التضحية والفداء ابنتا أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ(عائشة وأسماء)ـ رضي الله عنهما ـ في حفظ السر والمشاركة الفاعلة، فأما عن حفظ السر، قال ابن إسحاق:(وكان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ رجلًا ذا مال، فكان حين استأذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الهجرة، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: لا تعجل، لعل الله يجد لك صاحبًا، قد طمع بأن يكون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما يعني نفسه، حين قال له ذلك، فابتاع راحلتين، فاحتبسهما في داره، يعلفهما إعدادا لذلك، قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الساعة إلا لأمر حدث، قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: أخرج عني من عندك، فقال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك؟ فداك أبي وأمي! فقال: إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة. قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة. قالت: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أرقط ـ رجلًا من بني الدئل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركًا ـ يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. وأما عمن كان يعلم بهجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق:(ولم يعلم فيما بلغني، بخروج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحد، حين خرج، إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر، أما علي فإنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما بلغني ـ أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة، حتى يؤدي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الودائع، التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما أجمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخروج، أتى أبا بكر ابن أبي قحافة، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمد إلى غار بثور (جبل بأسفل مكة) فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما، يأتيهما إذا أمسى في الغار، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما)(سيرة ابن هشام، ت: السقا 1/ 484). وأما عن المشاركة الفاعلة فيقول ابن اسحاق:(وأتتهما أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصامًا، ثم علقتها به،فكان يقال لأسماء بنت أبي بكر: ذات النطاق لذلك، قال ابن هشام: وسمعت غير واحد من أهل العلم يقول: ذات النطاقين، وتفسيره: أنها لما أرادت أن تعلق السفرة شقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر، قال ابن إسحاق: فحدثت عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل ابن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشًا خبيثًا، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي)(المرجع السابق1/ 486).
ولم يكن ابتنى أبي بكر الصديق وحدهن المشاركات في الهجرة بالمشاركة، فقد قامت أم معبد الخزاعية بضيافة رسول الله وصحبته، فـ(عن أبي معبد الخزاعي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أُرَيْقِط الليثي فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية وكانت امرأة جلدة برزة تحتبي وتقعد بفناء الخيمة تسقي وتطعم فسألوها تمرًا ولحمًا يشترون فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، فإذا القوم مرملون مسنتون فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى فنظر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى شاة في كسر الخيمة فقال:وما هذه الشاة يا أم معبد؟! قالت: هذه شاة خلّفها الجهد عن الغنم فقال: هل بها من لبن؟! قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها قالت نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبًا، فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال: اللهم بارك لها في شاتها، قال:فتفاجت ودرّت واجترت فدعا بإناء لها يُربض الرهط فحلب فيه ثجًّا حتى غلبه الثمال فسقاها فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آخرهم وقال: ساقي القوم آخرهم شربًافشربوا جميعًا عللاً بعد نهل حتى أراضوا ثم حلب فيه ثانيًا عودًا على بدء فغادره عندها حتى ارتحلوا عنها، فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا حيلًا عجافًا هزلى ما تأوق مخُّهن قليل لا نقى بهن فلما رأى اللبن عجب فقال: من أين لك هذا والشاة عازبة ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله إلا أنه مرَّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، قال: والله إني لأراه صاحب قريش الذي يطلب، صفيه لي يا أم معبد؟ قالت: رأيت رجلًا ظاهر الوضاءة متبلج الوجه، حسن الخلق لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة وسيم، قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور أكحل، أزجّ أقرن، شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار وإذا تكلم سما وعلاه البهاء وكأن منطقه خرزات عقد يتحدرن، حلو المنطق فصل، لا نزر ولا هذر أجهر الناس وأجملهم من بعيد وأحلاهم وأحسنهم من قريب ربعه لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً له رفقاء يحفّون به إذا قال استمعوا لقوله وإن أمر تبادروا إلى أمره محفود محشود لا عابس ولا مفند، قال: هذا والله صاحب قريش الذي ذُكر لنا من أمره ما ذكر ولو كنت وافقته لالتمست أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا)(صفة الصفوة 1/ 55).
وهكذا نرى المسلمات الأوائل يضربن أروع الأمثلة في الفداء والتضحية والتحمل، نسأل الله أن يجعل هذا العام عام سعادة ورخاء ووسعة على عُماننا الحبيبة وجميع بلاد المسلمين.

* محمود عدلي الشريف
[email protected]