ينطلق طرحنا للموضوع من فرضية تأثير المشتتات الفكرية والظواهر السلبية على نضج الفكر التنموي للمواطن ومستوى المهنية والاحترافية في قراءة أبعاد التنمية الوطنية والتوجُّهات المتجددة التي جادت بها رؤية عُمان 2040، والصورة الذهنية التي يُسقطها الشباب على مجريات العمل الوطني والتوجُّهات الحكومية الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، إذ تشكِّل المشتتات الفكرية التي يواجهها الشباب اليوم عاملا مقلقا لبرامج التنمية الوطنية في إهدار لوقت الشباب، وتضييع لمبدأ الأولويات، وتضييق لمسارات التفاؤل والإيجابية في اغتنام الفرص، فهي أيضا تعمل على زيادة مساحة الارتباك، واتساع فرص التناقضات والفجوات في حياة الشباب، وإيجاد مساحة فارغة لديه يبحث لها عن محطة ارتواء، فيصبح مشغول البال، كثير التفكير، معطل الاهتمام بالأولويات، يعيش حالة من الازدواجية والحيرة، وتبرز انطباعاته حالة من الخمول والمزاجية والعصبية التي تؤثر في إنتاجيته، وتعطِّل معالم المسؤولية، والقدرات النابضة بالحيوية والنشاط لديه، وتوجيهها للبحث عن الجوانب الثانوية التي يقرأ فيها أولويته، والثغرات الجانبية التي يُجهد نفسه في سبر أعماقها، والتفكير في البحث عن دلائل لتفسيرها، ناهيك عن مساحة الأنانية في التفكير والأيديولوجية التي تصبح هاجسه في تفسير القضايا وحلحلة الاختلاف، بل ويقرأ في بعض الاختلافات فرصة لإثبات الذات والمنهج الذي يلتزمه، ويبدأ بإسقاط العديد من الممارسات الشخصية والمفاهيم المتداولة في عالمه.
وإذا كان لهذه التحديات الفكرية هذا الأثر لذلك يتوقع بأن يمتد تأثيرها ويسطو على كل الممارسات الشخصية التي يلتجئ إليها الفرد، وهنا تبرز حالة الغموض في ذاته، والتقوقع في أفكاره، والسلطوية في آرائه، وتظهر الأنانية والفردية في قراراته، ويبدأ يتخذ من الأدوات والوسائل التغريرية ما يؤثر بها على فكر أقرانه، وينخرط في عالم فلسفي وجودي بحت تسهم فيه كومة التراكمات الفكرية في إيجاد حاجز الصد بينه وبين المجتمع، فيجد نفسه أنه على مواجهة مع المجتمع، فيسلك مسلك التعالي على المسلمات وتشويه صورة الحقائق، ومحاولة الزج بأفكار الشباب في قضايا خلافية وأسئلة تضليلية يتجه خلالها فكر الناشئة إلى البحث عن هذه المدخلات، منطلقا من بعض النكهات التغريرية والحجج الواهية التي يحاول أن يلقي ببذورها في عالم النشء، وكأنه يبحث عن الإصلاح، ويتجه إلى إعادة تصحيح هذا العالم ومحاولة تغييره، وإخراج الشباب من حالة الجمود والتقليدية والتقوقع والفهم المبتور للقضايا إلى عالم أرحب، ومساحة أوسع، عالم قد يخرج الإنسان من انقياده المطلق إلى غرس أفكار أخرى تبرز فيها ذاتية التصرف وحرية الرأي واستقلالية التفكير.
ومع أن التحديات الفكرية قديمة قدم التأريخ، إلا أنها بدأت تأخذ منحى أيديولوجيا بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط المعسكر الشيوعي الاشتراكي، وبروز سياسة القطب الواحد، وانتهازية البراجماتية التي نشأ عليها ووحدوية التفكير والتأثير وسلطوية الفكر التي عززت من فكر العولمة، إلا أن اتساع دور التقنية وبروزها في الواجهة والتحولات التي باتت ترسمها في حياة المجتمعات المستهلكة، وظهور الإنترنت والفضاءات المفتوحة ومنصَّات التواصل الاجتماعي التي جعلت من العالم قرية صغيرة، واتساع المعرفة وشيوعها وحجم المعلومات والأفكار التي أنتجها العالم في السنوات الأخيرة، والحضور الشبابي في المنصَّات الاجتماعية باعتبارهم أكثر الفئات التي باتت تشكل مجتمع التقنية والمنصَّات الاجتماعية، لتجد هذه الأفكار فرصتها للتعمق والتداول والنشر واتساع فرص انتشارها بين أبناء المجتمع في ظل الخصوصية التي تتميز بها هذه المنصَّات، مدخلا لانتشار الحسابات الوهمية والتجييش الإلكتروني الذي بات يحمل معه بذور الإلحاد والنسوية والمثلية وغيرها من الأفكار السلبية التي باتت تحمل أجندة أخرى واتجاهات فكرية قد تتقاطع مع المجتمع، كما أن النشء الذي باتت تحتويه هذه المنصَّات ما زال غير قادر على استيعابها أو تصور هذه الأفكار، ومع هذه الهشاشة الفكرية، وغياب العمق الديني والفكري والمنهجي والفقهي، والرقابة الذاتية والأبوية، واتساع التناقضات، وغياب القدوات والنماذج في الواقع، وتصدر أصحاب الفكر اللاديني إلى واجهة الشاشات الفضائية والإعلام، واتجاه الشباب إلى هذه المنصَّات لقضاء وقت الفراغ وملء أفكارهم واهتماماتهم، محاولة منهم في الهروب من الواقع، والخروج من حالة السلبية التي باتت تبرزها الظروف الاقتصادية والتحديات الاجتماعية الأخرى وغياب فلسفة الاحتواء المجتمعي على مختلف الأصعدة، بالإضافة إلى حالة الانسحاب والفراغ والهدر التي بات يمارسها التعليم في ظل عدم وضوح الغايات الكبرى له والأدوات التي يستطيع أن يتعامل بها مع الطلبة ومساحة الاختيار التي قد تملأ فكر المتعلم في ظل لغة الإقصاء التي تمارسها ورقة الامتحان والاختبارات وانفصال ذلك كله عن أولويات وقناعات الشباب ورغباته وتحقيق أهدافه، والتي في ظل التئامها وتكاملها تعمل على وقايته من الانحراف الفكري والضياع الخلقي والتشتت المعرفي.
على أن التحولات الأخيرة التي أفصحت عنها منصَّات التواصل الاجتماعي وظهور مشاهير الإعلانات التجارية والدعاية الرقمية والحضور الواسع لهم في المجتمع الرقمي وفراغ الضوابط التي أسهمت في إتاحة الفرصة لهم لتقديم محتوى غير قادر على صناعة الواقع وإنتاج توجُّهات مستقبلية يعتمد عليها المجتمع، وطبيعة المحتوى ذاته الذي اتجه بكل ثقله إلى أدوات التجميل وصيحات الموضة، في ظل إقصاء للفكر الرصين والمحتوى العلمي الهادف، والاتجاه إلى الإشاعات والأفكار المبتذلة أو الأفكار التي تحمل في ذاتها فرصا أكبر للتنمر والعدوانية وتشويه صورة الآخر، في ظل إفراغ الشباب من هويته ومواطنته وخلق نزعة التغيير الوقتي لديه، فإن هذه التراكمات والمعطيات التي باتت تبرز الوجه السلبي للحياة والتركيز على إثارة الناس، ونشر الأفكار الترويجية والإشاعة، أنتجت مجتمعا آخر يتقاطع مع التوجُّهات الوطنية، الأمر الذي بات يضيف إلى ذاكرة الشباب الجمعية أفكارا وتناقضات وفجوات تبحث عن نقطة ارتواء مفقودة.
من هنا فإن التحدي الأكبر هو كيف يمكن أن يؤسس المجتمع من أجندته التنموية وأولوياته الاقتصادية والاجتماعية والموقع الذي يصنعه الشباب في برامج التنمية والمساحة التي وضعتها مؤسسات الدولة لاحتواء الشباب، محطة تحوُّل تعيد هيكلة تفكيره ورسم ملامح تقدمه، وتعزيز الثقة في ذاته، وتوجيه أولوياته نحو الانتقال من واقعه الاستهلاكي السلبي الذي يعيشه إلى دوره في إنتاج الحياة من جديد وخلق روح التغيير في المجتمع، ومساهمته في تنشيط حركة البناء الذاتي مستفيدا من الرصيد الأخلاقي والقيمي والمهاري والمعرفي لديه في إعادة إنتاج الدور القادم. إن تحقيق هذا الهدف والوصول إلى نقطة التكامل والشراكة والاندماج بين تفكير الشباب وتناغمه مع أولويات الدولة، بحيث يقرأ الشباب في الفرص المتاحة له دعوة إلى التجديد الذاتي، والحفاظ على مساحات الاتصال والتواصل، جسرا ممتدا يحفظ الشباب والمجتمع من الانحراف الفكري؛ فإن تحقيق هذا التحوُّل لا بُدَّ وأن يواكبه جهد وطني استثنائي مستدام بكل المقاييس، لا يفتر لحظة أو تتنازعه الآراء ومضة يقوم على توحيد لغة الخطاب والتواصل والعمل في التعامل مع الشباب، وخلق كيانات ومنصَّات تواصلية مفتوحة تحتوي الشباب وأفكاره، واحتواء الفكر السلبي والوقوف معه عبر إيجاد الحلول والبدائل معا لفهم الأسباب والمسببات التي تقف خلف هذا الفكر، والآليات التي يمكن من خلالها إعادة هندسة التفكير الذاتي لدى الشباب، فإن من شأن هذا الاحتواء والحوار، وصدق الاهتمام الذي يحظى به الشباب في مؤسسات الدولة، والصورة الإيجابية التي يرسمها المسؤول الحكومي في مؤسسته بتبنيه سياسة العمل معا، وتوظيف المنتج الفكري لهذه المنصَّات في خدمة قضايا المؤسسة وتعاملها مع اختصاصاتها واستفادتها مما يطرح عبر هذه المنصات من أفكار ونماذج وتوجُّهات، فيتعامل معها بمزيد من الأريحية والتفاعل، ساعية لتحقيق هدف بناء مسارات أكبر للثقة والحوار مع المواطن، وبروز دور جمعي أكبر لمؤسسات التعليم والإعلام والمؤسسة الدينية في قدرتها على تعزيز البناء الفكري الرصين وإدارة المنصَّات المعرفية في حياة الشباب، فإن حالة التوافقية التي تعمل فيها هذه المؤسسات وحس التكامل والانسجام التي تفصح عنها آلية تعاطي هذه المؤسسات مع فكر الشباب، ومساحة الخيارات والاحتواءات المتاحة للشباب في التعبير عن رأيه وتفنيد أفكاره وقبول ما يفكر فيه، والعمل على اتخاذ أساليب أكثر ابتكارية تضمن إشغال الشباب بأولوياته، سوف يعيد إنتاج فكر الشباب، فيتجه ليكون مؤثرا فاعلا في عالمه، بدلا من أن يكون ضحية كومة تناقضات وتوجُّهات فكرية غير مسؤولة.
أخيرا، تأتي أهمية بناء ثقافة تنموية متكاملة للمواطن يعرف خلالها حقوقه وواجباته ومسؤولياته ويقف فيها على أدواره المتجددة في عالم متغير، ودور الحكومة والمؤسسات، يعرف بكل شفافية ووضوح ما تريده الحكومة، وما لديها من توجُّهات وخطط، وما الذي تريد أن تحققه في السنوات القادمة، ومن يصنع القرار بالمؤسسات، وكيف تبنى القوانين، وكيف يمكن للمواطن أن يقوم بدوره في مساعدة الحكومة، وكيف تتم الاستفادة من مما يطرحه المواطن عبر هذه المنصَّات، كل ذلك وغيره سيكون أحد الموجهات التي يمكن من خلالها صناعة تحوُّلات قادمة ترقى بمسارات التكامل الاجتماعي وتخلق بيئات مجتمعية أفضل للعمل معا بعيدة عن أي تشوهات أو أزمة ثقة أو خلافات في وجهات النظر، ويمارس المواطن فيها دوره بكل هدوء وأريحية وثقة وبدون الحاجة إلى رفع الصوت أو التشهير أو طرح الأفكار عبر المنصَّات والهاشتاقات، لأنه يقرأ في المؤسسات وطنا يحتوي المواطن، وبيتا كبيرا يصنع للمواطن فرصا أكبر للحياة والتعاون والتكامل، وبالتالي فإن التعايش الفكري مع المواطن ـ الذي هو نقيض التشتت الفكري والتذبذب المعرفي ـ وتقريب الصورة الفعلية لهذه السياسات في أدق تفاصيلها من حيث المخاوف المحتملة، وردود الأفعال المتوقعة، ونتائجها على استقرار المواطن اقتصاديا، بيئة احتواء تضمن نمو النضج التنموي للمواطن في مواجهة كل المشتتات والمشوهات الفكرية مفتوحة المصدر التي يتعرض لها في واقعه.

د. رجب بن علي العويسي
[email protected]