«شخصيا أجد أن زيارة بيلوسي أشبه ما تكون بمحاولة جريئة من قِبل الولايات المتحدة الأميركية لتكرار الفكرة القديمة المتجددة حول كسر هيبة الصين السياسية، وإرسال رسالة صريحة إلى هذه الأخيرة أن الولايات المتحدة الأميركية ما زالت القوة العظمى رقم واحد عالميا..»

تُعد زيارة نانسي بيلوسي يوم الثلاثاء الموافق 2 أغسطس 2022 لتايوان تحديا واضحا وصريحا من قِبل الولايات المتحدة الأميركية للصين ( 1). صحيح أن هذا التوجُّه ليس الأول ولن يكون الأخير، أقصد المواجهات الاستفزازية المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين، إلا أن مستوى الزيارة هذه المرَّة من حيث المكان والزمان وحتى شخصية بيلوسي نفسها (2 ) بالرغم من التحذيرات الصينية القوية والمباشرة التي سبقتها هو ما يشكل هذه الهالة من المخاوف الخاصة بردود الافعال والتبعات والعواقب التالية.
تفاوتت الآراء التحليلية حول الزيارة بين من اعتبر الصين أضعف من مواجهة الولايات المتحدة الأميركية عبر القوة العسكرية، ورأي آخر عدَّ ردة الفعل الصينية على الزيارة متعقلة وأخذت في الحسبان التبعات الخطيرة على الاستقرار والأمن الدولي. ولعل المخاطر التي يمكن أن تقع على الصين هي أكبر بكثير من التبعات التي يمكن أن تقع على الولايات المتحدة الأميركية، يكفي فقط أن تدرك الصين أنها يمكن أن تخسر قوتها الاقتصادية التي وصلت إليها طيلة العقود الماضية نتيجة الدخول في صراع عسكري، وتحليل ثالث يرى أن الصمت الصيني مؤقت وستبرز ردود الأفعال الصينية على الزيارة في أقرب وقت ممكن عبر استفزازات مماثلة أو تحركات اقتصادية أو حتى سياسية؛ أما الولايات المتحدة الأميركية فقد وجدت أن رد الفعل الصيني على الزيارة مبالغ فيه كثيرا.
شخصيا أجد أن زيارة بيلوسي أشبه ما تكون بمحاولة جريئة من قِبل الولايات المتحدة الأميركية لتكرار الفكرة القديمة المتجددة حول كسر هيبة الصين السياسية، وإرسال رسالة صريحة إلى هذه الأخيرة أن الولايات المتحدة الأميركية ما زالت القوة العظمى رقم واحد عالميا، وأن تايوان ليست أوكرانيا، والصين ليست روسيا؛ كما أرى أن ردة الفعل الصينية تجاه الحادثة ليست غريبة، فماذا يمكن أن تفعل الصين تجاه هذه الخطوة الاستباقية، هل تواجه الولايات المتحدة بضربة صاروخية للطائرة؟ هل تتدخل عسكريا في تايوان قبل الزيارة؟ بالطبع كل هذه الأفعال الأخيرة ستكون لها تبعات خطيرة على الصين والمحيط الأمني الصيني والأمن الدولي قبل التبعات على الولايات المتحدة والأمن الأميركي(3 ).
على العموم الزيارة قد انتهت، وكسبت الولايات المتحدة هذه المعركة بنجاح، وخسرت الصين بالفعل هذه الجولة(4 ). الجانب الآخر والخطير في الحادثة هو تايوان نفسها، والإضافة الكبيرة إلى ثقتها في نفسها أولا وفي حليفها الأميركي تاليا، واعتقادها أن الولايات المتحدة الأميركية ستقف معها على كل حال من الأحوال في حال واجهت الصين في يوم من الأيام، أو قامت بردة فعل ما قد تشكل تهديدا خطيرا على الأمن الصيني، خصوصا أن الصين قامت بردود فعل مقابلة ضد تايوان عقب الزيارة(5 )، يضاف إلى ذلك ارتفاع سقف المخاوف التايوانية الآن من ردود الفعل الصينية على الزيارة، وهو ما قد يؤدي إلى انفعالات وردود فعل عاطفية تايوانية غير محسوبة وما قد يتبعها من تصرفات سياسية أو أمنية أو اقتصادية اندفاعية خطيرة في مقبل الوقت.
أختم هذا الطرح ببعض الأسئلة: هل ستستمر الصين بتعقلها وصبرها ـ كما هو معتاد منذ عقود ـ تجاه استفزازات الولايات المتحدة الأميركية التالية؟ هل يمكن أن تندفع أميركا وبعض الدول الأوروبية باتجاه دعم استقلال تايوان الأحادي؟ في المقابل هل ستدفع الاستفزازات الأميركية الصين إلى التعاون مع روسيا بشكل أقوى وأوسع، خصوصا أن روسيا اليوم تواجه الولايات المتحدة الأميركية لنفس الأسباب الاستفزازية تقريبا؟
ـــــــــــــــــــ
مراجع
1 ـ - هل تدخل دول أخرى مع الولايات المتحدة الأميركية في استفزاز الصين؟ هل هناك تنسيق مسبق بين هذه الدول؟ في تحدٍّ آخر ذكرت وكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) الجمعة 5/8 أن ثمانية أعضاء من البرلمان الألماني سيزورون جزيرة تايوان في نهاية أكتوبر المقبل، وأوضحت الوكالة، بحسب مصدر في لجنة حقوق الإنسان في البوندستاج الألماني، أن الزيارة ليست مرتبطة بزيارة بيلوسي إلى تايوان
2 ـ - تُعد بيلوسي من الشخصيات الأميركية التي لها تاريخ طويل من الكراهية لدى الصين، تعود تقريبا إلى العام 1989مع اندلاع الاحتجاجات في ساحة تيانانمن بالعاصمة بكين.
3 ـ - للأسف الشديد يجد العديد من المراقبين أن ردود الفعل الصينية تجاه أي استفزاز أميركي تختلط بين الضعف والتعقل، فهذه الحادثة ليست الأولى، ولكن ردود الأفعال الصينية هي نفسها منذ عقد ونصف تقريبا، راجع حول هذا الأمر مقال لي تحت عنوان: تايوان الفتيل المشتعل في العلاقات الأميركية الصينية، الوطن العمانية، على الرابط: https://alwatan.com/graphics/2010/02feb/8.2/dailyhtml/opinion.html#6
4 ـ - أوقفت الصين محادثات المناخ مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى التعاون في منع الجريمة عبر الحدود وإعادة المهاجرين غير النظاميين، كما أعلنت الوزارة نفسها أنها قررت فرض عقوبات على رئيسة مجلس النواب الأميركي وعائلتها المباشرة.
5 ـ - بتصوري أن الحالة الأكثر تعقيدا والتي يمكن أن تستخدم فيها الصين المواجهة العسكرية مع تايوان هي إعلان تايوان استقلالها من جانب واحد، أو شعور الصين بتطور القوة التايوانية إلى الدرجة التي لن يمكنها معها منع تايوان في وقت من الأوقات من إعلان استقلالها.

محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
[email protected]
MSHD999 @