مسقط ـ «الوطن»:
بُني الكون على المتناقضات، وعجّ العالم منذ الأزل بالمفارقات ، وعكس الأدب قديمه وحديثه هذه الحقيقة .فقام الإبداع الإنسانيّ أحيانا كثيرة، على ضروب مثيرة من التّناقض وحفل بالمفارقات ، ووظّف ذلك وتلك أيّما توظيف .و قديما أطلق المتنبّي قولا جرى مجرى الحكمة و سار بين النّاس إلى يومنا هذا حين قال : (و بضدّها تتميّز الأشياء) . فلا يُعرف السّواد إلّا بالبياض، ولا تُدرك الفضيلة إلّا بالرّذيلة ، ويكون العدل نقيضا للظّلم، والفرح نقيضا للحزن والجمال ضديدا للقبح، وقس على ذلك كلّ المتناقضات وسائر الأضداد .
فإذا نظرنا في الشّعر العربيّ منذ القديم ، ألفينا تناقضا ظاهرا يقع بين الألفاظ ، سمّاه العرب (طباقا) ، و تناقضا أعمق يكون بين الصّور ، وسمّاه العرب (مقابلة) . ولكنّ التّناقض قد يكون في بعض الأحيان أخفى وأبعد أغوارا : وذلك حين يُعقد في مستوى المعاني الخفيّة ، فيشي السّياق بتضادّ بين معنى ظاهر يلوح على مستوى النصّ وآخر خفيّ هو ذاك الكامن وراء الكلمات ، والقابع في عتمة النصّ .
والواقع أنّ كشف هذا الضّرب من التّناقض الخفيّ يحتاج من المتلقّي تقليبا للنّظر في النّصوص وتدبّرا لها ، وتأمّلا في سياقاتها وشبكة العلاقات بين مكوّناتها . ذلك أنّ هذا التّناقض الخفيّ والذّي نعّبر عنه بالمفارقة ، لا يمنح نفسه للقارئ المتعجّل الذّي لا يقرأ من النصّ إلّا ظاهره ، بل يحتاج منه إلى جهد و رويّة في التّحليل من جهة ، والتّأويل من جهة أخرى ، أو ما يعبّر عنه الكثيرون بالتّفكيك و إعادة البناء .
و من المهمّ أن نشير هاهنا ، إلى قضيّة نراها جوهريّة في مبحث التّناقض والمفارقات في الأدب شعره ونثره ، نعني مقاصد المبدع بما تعنيه من وعي وقصد ، ودلالات أخرى بما تعنيه من لاوعي ، وتمرّد للنصّ على صاحبه .فقد يختار الأديب عن وعي ولأسباب كثيرة أن يبني نصّه على جملة من المتناقضات الظّاهرة ، أو المفارقات الخفيّة ، وعندها لابدّ من الوقوف عندها ومن تحليلها . ولكنّه أحيانا كثيرة قد يبني نصّه على التّناقض دون قصد ، وقد تتسرّب إلى النصّ جملة من المتناقضات أو المفارقات حين يتمرّد النصّ على صاحبه فتقول اللّغة عنه ما لم يرد قوله ، أو ما تستّر عليه و غيّبه . و عندها ينفتح النصّ على دلالات عجيبة لم يكن الأديب قد فكّر يوما في أن يقود إليها المتلقّي أو لم يقدّر يوما أن يتوصّل المتلقّي إليها .
كما لا تفوتنا الإشارة إلى قضيّة أخرى لا تقلّ أهميّة عن الأولى مفادها أنّ تحليل ظاهرتي التّناقض والمفارقات في الأدب ، ومحاولة تأويلهما وفهم ما فيهما من مقاصد ودلالات ، لا يخلوان من صعوبة وتعقيد لأنّهما ببساطة يتطلّبان الاستعانة بأدوات معرفيّة كثيرة متنوّعة . فلنا أن نستعين بالبلاغة القديمة والجديدة ، ولنا أن نستعين بالفلسفة ، ولنا أيضا أن نستمدّ من علم النّفس الكثير من مفاهيمه ومقولاته ، فضلا عن الأسلوبيّة ومختلف مناهج تحليل الخطاب .وعندها نسلّم بأنّ النصّ واقف في مهبّ الدّلالات ، وللنّاقد أن يجوّد أدواته المعرفيّة وهو يبحث في ظاهرتي التّناقض والمفارقات .
وفي هذا الإطار اخترنا أن ندرس أحدث دواوين الشّاعر العمّانيّ (سعيد الصّقلاوي) الصّادر في أبريل 2022م، والذّي اختار له عنوان إحدى قصائده (غارق يغنّي). وذلك لأسباب كثيرة .
أوّلها : ثراء تجربة الشّاعر ، ونضجها فللشّاعر دواوين كثيرة تنوّعت موضوعاتها ، وتعدّدت مشاربها وملامحها الفنيّة ، وثانيها قيمة هذه التّجربة و ما حظيت به من مكانة جليلة في الثّقافة العمّانيّة خصوصا، والعربيّة بشكل عامّ ، وثالثها عنوان هذا الدّيوان الحديث ، القائم على تناقض صريح بين الغرق والغناء رغم ما يجمع بين اللّفظين من غنّة في الحروف . وهو ما يغرينا بالبحث في الدّيوان، بل يمهّد لنا الطّريق نحو بسط جملة من الأسئلة نراها ملحّة تدعونا إلى التّحليل و التّأويل : فكيف للغارق أن يغنّي ؟ ولم اختار الشّاعر هذا العنوان تحديدا للمجموعة الشعريّة كلّها ؟ ألأنّ القصيدة التّي تحمل هذا العنوان أفضل ما في هذا الدّيوان ؟ أم لأنّ الغارق الموصوف ليس ككلّ الغرقى لا يطلب مساعدة أو يصرخ للنّجاة ، بل هو للغناء أحوج .. فأيّ غناء ؟
ورابعها أنّ قراءة أوليّة وسريعة للدّيوان تلفت الانتباه إلى تجاور المتناقضات فيه وكثرة المقابلات، بما يعنيه ذلك ضرورة من مفارقات خفيّة تشكّل النّسيج الدّاخليّ للنّصوص الشعريّة في الدّيوان .
كلّ هذه الأسباب دعتنا إلى الإقبال على دراسة (غارق يغنّي) آملين أن نقف على جانب محدّد من جوانب الشعريّة فيه ، نعني توظيف التّناقض وبلاغة المفارقات .وإن كنّا قد اخترنا عدم الفصل بين التّنظير والتّطبيق ، بل سنجعل غايتنا الأساسيّة تحليل الظّاهرة المدروسة وتأويلها ، مذكّرين ببعض الأسس النظريّة متى دعتنا الحاجة إلى ذلك . على أن تكون إشكاليّتنا الأساسيّة في هذا المقال مختزلة في هذا السّؤال : إلى أيّ مدى نجح سعيد الصّقلاوي في توظيف التّناقض ونحت الشعريّة من المفارقات ؟
شعريّة التّناقض والمفارقات :
لطالما كان التّصدير في الكتب والدّواوين مهمّا ، لأنّه يفتح أمام المتلقّي نافذة يطلّ منها على عالم يرسمه الأديب بالكلمات ، و يبدعه بالصّور ومختلف الأساليب المنتقاة .والتّصدير قد يكون في أغلب الحالات استدعاء لكلام الآخر المنسجم عادة مع العالم الشعريّ أو فحوى الخطاب . ولكنّ سعيد الصّقلاوي صدّر الدّيوان بكلام له جعله نافذة مطلّة على بحر زاخر من الكلمات . وهو أسطر شعريّة بليغة ، تحتاج منّا إلى تدبّر وتحليل .فقد قال :
أَمْشِي عَلَى الجَمْرِ
مَاءُ الوَجْدِ يَمْلَأُنِي
كَأنَّنيِ فَوْقَ جَمْرِ المَاءِ بَرْداَنُ
في هذا الكلام ، سرد مثير و صور عجيبة تدعو إلى السّؤال . فالشّاعر يسرد حدثا جعله باعتماد المضارع المرفوع دائما مستمرّا ، هو حدث المشي ولكنّه ليس ككلّ مشي ، إذ لم تُمهّد له السّبيل بل كان على الجمر . ولئن بدت العبارة مبدئيّا عبارة شائعة ، بل ضربا من القوالب الجاهزة ، فإنّها وقد اقترنت بصور ثلاث قد خرجت عن المألوف وحلّق بها صاحبها خارج السّرب . فهو يمشي فوق الجمر ، ولكنّ الجمر جمر ماء . والماشي مملوء بماء الوجد ، وهو رغم الجمر بردان . صور ثلاث متناقضة ، متضاربة تثير فينا السّؤال وتضعنا على عتبات عالم من السّحر والخيال .و لأنّ السّياق عاطفيّ في هذه الأسطر الشعريّة ، لذنا بعلم النّفس نبحث عن طريق محتملة من طرق كثيرة ندخل بها إلى عالم الغارق المغنّي . فقد طوّر (إدوارد توري هينجنر) أواخر الثّمانينات نظريّة مفادها أنّ الخلاف الدّاخليّ أهمّ سبب من أسباب الاضطرابات العاطفيّة والنّفسيّة .ولكنّ أهمّ ما يعنينا في تلك النظريّة أنّ التنّاقضات الدّاخليّة قد تخلق شعورا عامّا بعدم الارتياح . لأنّ الذّات تكون ممزّقة بين حقيقتها (كيف أنا) والذّات المثاليّة ( كيف أريد أن أكون ) والامكانات ( كيف الوصول إلى الذّات المنشودة )، وهو ما يفضي إلى مشاعر سلبيّة قد تنعكس على السّلوك .
ونلتقط من هذه النظريّة مصطلح (عدم الارتياح) وهو ما يشي به القول الشعريّ السّابق ففعل المشي ليس إلاّ اختزالا لتجربة ذاتيّة عنوانها عدم الارتياح ، فالذّات عاشقة ملأ كيانها الوجد وحوّل طريقها إلى جمر، ولكنّه جمر من الماء فيه ينصهر المتناقضان نار وماء /‏ حرّ وبرد . والعجيب أنّ الوجد ماء وتلك استعارة طريفة ذكّرتنا باستعارة قديمة لأبي تمّام أسالت كثيرا من الحبر وأثارت جدلا بين القدامى والمحدثين ونعني (ماء الملام) في قوله الشّهير :
لا تسقني ماء الملام فإنّني
صبّ قد استعذبت ماء بكائي
فقابل ماء بماء : ماء الملام بماء البكاء .وقد قابل شاعرنا هنا ماء الوجد بماء الجمر فجعل الذّات في تجربة العشق ماء - دلالة على سيلان الرّوح وجْدًا - وهو ماء يمشي على جمر في الظّاهر - دلالة على المعاناة – ولكنّ الجمر يصبح بدوره ماء لا قرار له ولهذا تشعر الذّات بتمزّق بين ما هي عليه ( عشق ) وما تتوق إليه ( وصال يريحها) والإمكانات ( كيف السّبيل إلى الوصال)
تمزّق نفسيّ لا يمكن أن يكون سكينة و أمانا ، وإنّما هو قلق دائم لا ينتهي استعار له الشّاعر لفظة بردان التّي أوحت بالمفارقة بين حرارة الجمر وبرد الماء . ولكنّها مفارقة يمكن أن تُفضي إلى انسجام : انسجام يكمن في الرّجفة أو الارتجاف فمن أصابه البرد ارتجف وكذا حال المحموم . فإذا بالعشق كما صوّره سعيد الصّقلاوي في هذا التّصدير (رجفة) و حال عجيبة تجمع بين المتناقضات :بين اللذّة والمعاناة .
وتستوقفنا من قصائد الدّيوان قصيدة اختار الشّاعر لها عنوانا (ماذا لو) ، وهي قصيدة يختزلها سؤال صاغه في قوله :
مَاذَا لَوْ كَانَ الحُبُّ
قَصَائِدَ تَمْلَأ ُكُلَّ الدَّرْبْ ؟
هو سؤال نراه حالما لا حائرا، أي هو بلغة البلاغييّن حامل لمعنى التمنّي . فالشّاعر المؤمن بالحبّ يتمنّى لو كان هذا الشّعور قصائدَ .فينعقد بذلك تناقض بين ما نشعر به وما نقوله ،لأنّ القصائد كُتبت أو لم تُكتب ليست إلّا كلمات ، فإنّها لا تعبّر حقّا - و في أغلب الأحيان- عمّا نشعر به ، بل نراها عاجزة كلّ العجز عن قول المشاعر لاسيّما إن كانت حبّا عميقا تخونه الكلمات ، فيظلّ مغيّبا تلفّه العتمة .و الشّاعر واع بذلك كلّ الوعي ، و لهذا يكتفي بالتمنّي إذْ لا يُحلّ هذا التّناقض إلّا في الحلم .
ولأنّ الحلم لا حدود له ، تتحوّل القصائد إلى كيان ملموس يملأ (الدّرب).وقد اختار الشّاعر المفرد لا الجمع فلم يقل يملأ كلّ الدّروب ، لأنّه يحلم بتوحيد دروب السّالكين لهذه الحياة في درب واحد هو درب (الحبّ) . وفي ذلك نفس صوفيّ عجيب . فالحياة رحلة طويلة يتمنّى الشّاعر لو تنتفي فيها الأضداد وتزول عنها المتناقضات .فتكون حبّا تجسّد في الكلمات . وعندها تحدث أمور عجيبة تسكن جسد القصيدة وتملأ كيان المتلقّي بخيالات وأحلام : فالنّجم العالي يتدلّى من السّماء ليقبّل الحبّ الذّي غدا قصائد تملأ الدّرب : يقبّله في العينين والقلب أي في موطني العشق الأساسيّين: قلب يخفق وعين تخبر بلوعة العشق . ونرى الزّهر و هو ينحني عليه بطيب ، يستعير له الشّاعر صورة الحنان ، فيجمع بين المحسوس عن طريق الشمّ والمعنويّ الذّي لا يُحسّ . ويجعل ذاك الطّيب خلاصة ما حلمت به السّحب في إشارة بعيدة إلى مطر السّحاب الذّي يحيي الأرض ويُنبت الزّهر . ويجعل الزّمن يصحو بعد غفوة فتعانق النّخل الحبّ وتشدوه الأطيار، وتشكّله الألوان ، وتلحّنه الموسيقى، يقول :
هَلْ كَانَ النَّجْمُ يُقبَّلُهَا
فِي العَيْنَيْنِ وَفِي أَنْحَاء ِالقَلْبِ
أَوْ كَانَ الزَّهْرُ يُطَيِّبُهَا
بِحَنَانٍ يُغْدِقُهُ
مِنْ أحلام السُّحْبِ
أَوْ كَانَ الزَّمَنُ الغَافِي
بَيْنَ قَوَافِيهَا
يَصْحُو فِي ذِكْرَى الجَدْبِ
أَوْ كَانَ النَّخْلُ يُعاَنِقُهَا أُفقًا
وَالطَّيْرُ يُغَرِّدُهَا شَوْقًا
واللَّوْنُ يُشَكّلُهَا عِشْقَا
وَالمُوسِيقَى تَسْكُبُهَا
لَحْنُ الفَرَحِ العَذْبِ
ولأنّ الشّاعر يعلم أنّ الأمر لا يغدو أن يكون حلما ، و أنّ منطق الكون يقوم على المتناقضات فالحبّ يقابله الكره والحلم نقيضه واقع ، و لأنّه يعي كلّ الوعي عجز القصائد عن تجسيد الحبّ و إن بلغت من البلاغة أعلى المراتب ، عوّل على أداة افتراض المستحيل (لو) بها افتتح القصيدة و بها ختمها .فكانت المفارقة جليّة بين واقع وحلم ، بين موجود ومنشود ، بين سؤال ينتظر الجواب وجواب يظلّ مجرّد فرضيّة يصعب تصديقها .


أ.د. سامية الدّريدي
جامعة تونس
كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس