لكنّ المفارقة في ديوان (غارق يغنّي) تكون أجلى و أوضح حين يصوّر الشّاعر واقعا جميلا وأفرادا من المجتمع طفحت قلوبهم بالحبّ فأضاء ما حولهم ، وذلك في قصيدته المعنونة التّي لم تخلُ رغم ذلك من التّناقض : تناقض في الألفاظ والصّور . فهو يصوّر قوما إن أرادوا إبداعا وصلوا إلى الابتداع ، وهم يشيعون في النّفوس المظلمة ضياء ، ويحوّلون الأحزان أفراحا فهذا التّناقض يبدو منطقيّا لأنّه يتنزّل في سياق تغنّ بهؤلاء القوم الذّين حوّلوا المذموم محمودا ولكنّ المفارقة الحقيقيّة إنّما تكمن في السّطرين الأخيرين .يقول :
يُبْدِعُونَ الذِّي يَرَوْنَ ابْتِدَاعًا
لَا يُرَاعُونَ مَا يَكُونٌ وَ كَانَا
فَظَلاَمُ النُّفُوسِ فِيهِ ضِيَاهُمْ
و هُدَاهُمْ أَنْ يُطْفِئُوا الأَحْزَانَا
كَيْفَ للْقَلْبِ يَسْتَظِلُّ نَعِيمًا
و المَآسِي تَغْلِي بِهِ نِيرَانَا
من هنا ندرك أنّ القصيدة تستجيب لتعريف فلسفيّ للمفارقة هو مخالفة المنطق ، إذ المفارقة كما يعرّفها الفيلسوف الانجليزي مارك سينسبري هي خاتمة غير مقبولة ، نستمدّها من فرضيّات قد تبدو مقبولة من خلال منطق قد يبدو مقبولا . و من ثمّ فإنّ المفارقة قد تعبّر عن تناقض خارجيّ عندما تناقض معرفة أو فرضيّة سابقة، أو تناقض داخليّ عندما تحوي الشّيء و نقيضه .
فالأبيات المذكورة آنفا تترابط منطقيّا ، و يفضي بعضها - ظاهريّا - إلى بعض :ولكنّ الخاتمة لا تبدو مقبولة وإن بنيت على تدرّج منطقيّ مقبول . ذلك أنّ الشّاعر بعد تغنّيه بهؤلاء القوم الذين أبدعوا وابتدعوا وهدوا النّفوس المظلمة بضيائهم ومحوا الأحزان ، فاجأنا بتحوّل صارخ في مسار النصّ حين أنكر فرضيّة أن يذوق القلب المثقل بالهموم سعادة . إذ من اشتعلت فيه نيران الأحزان لن يعرف أبدا طعم النّعيم .فالتحوّل الواضح في مسار النصّ أحدث مفارقة لأنّ خاتمته تخالف بوضوح منطق النصّ في كليّته ، والواقع الجميل الذّي صوّرته الأسطر الشعريّة السّابقة تحوّل إلى واقع قاتم مرير في نهاية النصّ .فهل قصد الشّاعر بالمفارقة تأكيد عبثيّة الجهود التّي تحاول الإبداع و الهداية وتنشر الضّياء والسّعادة، حين تُطَوَّق بنيران المآسي كما يقول ؟ أليس في ذلك تلميح ذكيّ إلى واقع عربيّ طغت فيه المآسي على الأفراح ؟ وتراجعت فيه جهود الخيّرين أمام جحافل الظّالمين ؟
ومن المفارقات البليغة في الدّيوان حديث الشّاعر عن علاقة الإنسان بالدّنيا في قصيدته الموسومة ب(ركض) ، والعنوان كما نرى اختزال بديع للحياة ، فهي لا تعدو أن تكون ركضا في كلّ الاتّجاهات . يقول :
تُرَكِّضُنَا الحَيَاةُ عَلَى هَوَاهَا
وَ نَمْضِي طَائِعِينَ لِمُبْتَغَاهَا
نُدِيرُ العُمْرَ آمَالَا وَ وَهْمًا
نَسِيرُ بِهِ اتِّجاَهًا فَاتِّجَاهًا
وَنَعْرِفُ أَنَّنَا نَجْرِي وَ نَجْرِي
وَ لَكِنَّا نُرِيدُ لَهَا رِضَاهَا
وَ تُوقِفُنَا الحَوَادِثُ مَسْفِرَاتٍ
وَ لَكِنْ رَغْمَ ذَلِكَ لاَ نَرَاهَا
فالنصّ كما هو بيّن ، قد بُني على المقابلات بلاغة ، وعلى المفارقة بمعناها الخفيّ المتستّر . إذ نحن إزاء أناس يركضون في كلّ الاتّجاهات ودنيا تُركٍّضهم ولا تركض، تحكمهم ولا تخضع البتّة لهم . والنّاس في ركضهم يدركون أنّهم يلاحقون سرابا ويتعلّقون أوهاما ، و لكنّهم لا يكفّون عن الرّكض إرضاء للدّنيا .و قد تحدث الحوادث وتوقف ركضهم النّوازل ، فلا يرتدعون ولا يعقلون ، و إنّما يستأنفون سريعا ركضهم المحموم .والمفارقة على هذا النّحو طافحة بالسّخرية ولكنّها سخرية مريرة من سعي إنسانيّ في الحياة الدّنيا يظنّه أصحابه عملا وجهدا والحال أنّهم يعون كلّ الوعي أنّه مجرّد ركض نحو وهم . فكانت المفارقة مطيّة الشّاعر وأداته البليغة في تصوير هشاشة الوجود الإنسانيّ ، وعبثيّة كلّ سعي إلى امتلاك الدّنيا و كلّ تعلّق بما فيها .
غير أنّ أبلغ المفارقات ، قد وردت في القصيدة المعنونة ب(غارق يغنّي) ولعلّ ذلك ما حمل الشّاعر على اتّخاذ هذا العنوان عنوانا للدّيوان كلّه .يقول :
ذَاكَ الغَارِقُ فِي الظِلِّ
عَلَى حَدِّ الجُرْفِ يُغَنِّي
فالسّطران الأوّل والثّاني يمثّلان في نظرنا إجمالا لكلّ ما سيرد في النصّ مفصّلا ، إنّهما يمثّلان المفارقة الكبرى في النصّ و يعجّان بألفاظ متنافرة بل متناقضة ، وينسجان تبعا لذلك صورا متقابلة . فالشّاعر يتوسّل بأداة الإشارة للبعيد (ذاك) ليتّخذ من موضوع القصيدة مسافة ، فيوهمنا بأنّه يرينا فقط ما تراه العين وينقل إلينا ما تسمعه الأذن .فالغارق الموصوف ، لم يغرق في ماء أو بحر كما قد يُخَيّل إلينا ، وما هو بغارق في هموم أو أفكار، إن ذهبنا إلى ضرب متداول من المجاز .بل يجعله الشّاعر على غير المتوقّع غارقا في الظلّ . والسّؤال هنا ما دلالة الظلّ ؟ و الأهمّ من ذلك لم خيّر سعيد الصّقلاوي لفظة الغارق على الغريق ؟ ثمّ لم جعله واقفا على شفا جرف ؟ وكيف يجتمع هذا الغرق وذاك الوقوف الخطِر بالغناء ؟
أسئلة نراها ملحّة لا يستقيم بدون الإجابة عنها فهم النصّ وتأويله .والواقع أنّنا نحتاج في الإجابة إلى قراءة بقيّة القصيدة حيث يقول :
هَلْ يُبْصِرُ أَحْلاَمًا
فِي ضَوْءِ القَلْبِ،
وَيُدْرِكُ أَنَّ الأَيَّامَ تَمَنِّي ؟
هَلْ يَسْأَلُ عَنْ زَمَنِ الظِّلِّ
عَنْ رُوحِ الطَّلِّ
عَنْ شَغَفِ النَّخْلِ
عَنْ وَجَعِ الرَّمْلِ
فهذا الغارق في الظلّ ، المهمّش أو الخفيّ المنسيّ ، إنّما نراه واقفا على جرف وفي ذلك دلالة على الخطر الدّاهم ، أو الحيرة الوجوديّة العميقة ، أو المستقبل الغامض الذّي لا ملامح له ، وهو مع ذلك يغنّي فمن أين يستمدّ سعادته ؟من أين تأتيه الفرحة ؟ يتساءل الشّاعر حائرا فيطرح جملة من الفرضيّات تُختزل في حقيقتين : نور في القلب ، و ذكاء عقل . فالقلب نابض ، طافح بالأحلام .
والعقل يقظ يدرك أنّ الأّيّام لا تعدو أن تكون مجرّد أمنيات لا تتحقّق ، فالحياة زائلة لا محالة وجهد المرء أن يتمنّى ما لا يحقّقه، و حسبه أن يحلم بما لا يدوم ، ولذا نرى هذا الغارق في الظلّ يخالف الآخرين حين يكون همّه لا التمنّي ، بل السّؤال وهو معادل موضوعيّ للمعرفة . فهو يسأل عن جواهر الأشياء وحقائق الوجود ، وذلك بيّن من خلال المفاعيل المقترنة بفعل السّؤال الوارد في صيغة المضارع الدّالّة على الاستمراريّة . هذه المفاعيل انتقاها الشّاعر بمنتهى الدقّة ، فكانت (زمن الظلّ) ،و(روح الطلّ ) ، و (شغف النّخل) و (وجع الرّمل). إنّها تدلّ دون شكّ على رغبة ملحّة في النّفاذ إلى حقائق الأشياء ، و معرفة ما يجهله الآخرون أو ما لا يلفت انتباههم أصلا ليطرحوا حوله السّؤال .
وممّا يدعّم هذا المعنى ، ما ورد بعده من أقوال :
عَنْ مَا فِي عَيْنِ الحَقِّ
وَمَا فِي عَيْن الظَّنِّ
أَيُفَكِّرُ فِي مَشْهَدِهِ مُقْتَرِبًا
أَوْ مُبْتَعِدًا أَوْ مَا بَيْنَ البَيْنِ
فالألفاظ المعتمدة في هذه الأسطر الشعريّة تحدث مفارقة مهمّة في لغة الشّعر ، و رجّة في أفق انتظار القصيدة ،فهي إلى الفلسفة الشرقيّة أقرب منها إلى الشّعر ، بل فيها نفس صوفيّ مثير . ف(عين) الشّيء ذاته ، أو أصله ، أو جوهره لا أعراضه . و(الحقّ) و (الظنّ) و (التفكّر) أو (التّفكير) ألفاظ إن اجتمعت جعلتنا نلج عالم المعرفة بنوعيها اليقينيّ والظنّيّ .وهو- أي الغارق في الظلّ - في هذه المعرفة، لا يخرج عن أحوال ثلاث : اقتراب , و ابتعاد ، وبين المنزلتين . فهو تارة إلى اليقين أقرب ، و هو طورا إلى الظنّ أقرب ، وهو بين الظنّ و اليقين أطوارا . أليست تلك صفات كلّ من فكّر و تدبّر و بحث في حقائق الأشياء ؟ عندها ندرك أنّ القصيدة كلّها قائمة على مفارقة كبرى عكستها مفارقة لغويّة قد أشرنا إليها ، وعكستها كثرة الطّباق والمقابلات . ونقصد بالمفارقة الكبرى أنّ هذا الغارق هو من اختار الغرق ولهذا آثر الشّاعر لفظة الغارق على لفظة الغريق ، فبُني النصّ على مخاتلة إنّه يوهم بوضع هامشيّ أو خفيّ مغيَّبٍ والحال أنّ هذا الغارق يتدبّر بالعقل والقلب حقائق الأشياء ، وما الجرف الذّي يقف على حافّته إلّا (الحقيقة) المخبّأة ولذا نراه يُنشد أنشودة الكون ، أنشودة الإنسان التّائق إلى المعرفة ، الذّي لا يملّ مطلقا من السّؤال .وهو تأويل تعزّزه الأفعال الواردة في آخر مقطع من النصّ : تحسّس ، تلمّس ، توجّس . يقول :
هَلْ يتَحَسَّسُ ذِكْراه...
يَتَلَمَّسُ مَنْفَاه...
يَتَوَجَّسُ مَعْنَاه...
ولأنّ بحر المعارف غزير، والأسئلة لا تنتهي ،قد يشقى هذا الباحث عن الجواب، بحيرته ، وقد يسعد أحيانا بشغفه فتستوي في ذاته الأضداد : شقاء وفرح ، سعادة وضنى . يقول :
هَلْ يَشْقَى فِي فَرَحٍ
أَوْ يَسْعَدُ بِالمُضْنِي
لتنتهي القصيدة بما بدأت به ، نعني ذات الحيرة ونفس السّؤال :
كَيْفَ يُغَنِّي؟
كَيْفَ يُغَنّي؟
كلّ هذه النّماذج الشّعريّة تؤكّد دون شكّ أنّ ديوان سعيد الصّقلاوي المدروس ، قد وظّف المتناقضات و المقابلات ، كما أجرى في أعماق النّصوص مفارقات كثيرة ساهمت إلى حدّ كبير في شعريّة القصائد وفي ثراء دلالاتها وتنوّع مقاصدها .و لكنّ هذه الحقيقة لا تنفي بأيّ حال ظاهرة أخرى لافتة في نفس الدّيوان : هي ما شعرنا به من سكينة وطمأنينة في بعض القصائد ، فخلت تقريبا من التّناقض والمفارقات ، وطغى الانسجام التّامّ على أجزائها غلى نحو يدعونا إلى التّساؤل :متى تغيب المفارقات ويكفّ الكلام الشّعريّ عن توظيف التّناقض أسلوبا ومعنى ؟



* أ.د. سامية الدّريدي
جامعة تونس
كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس