وكانت السيدة عائشة لها دور، وللسيدة أسماء دور، ولعبد الرحمن بن أبي بكر ـ رضي الله عنهم جميعًا ـ دورٌ في أحداث الهجرة قاموا به خير قيام، وكلٌّ منهم قد مثَّل شريحته السِّنِية أو العُمْرية أو الزمنية والوظيفية، وعُرِفَ كلُّ ما لديه من إمكانات، وما يحسنه من قدرات، فالسيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ عندما دخل عليها جدُّها (أبو قحافة، وكان ضريرًا)، وهو أبو أبي بكر، سألها عنه، فقالت: خرج، قال: إلى أين كانت وجهته؟ قالت: لا أدري. قال: هل ترك المال؟. قالت: نعم، ووضعت يده على صُرَّة كانت في مكان محدد، يضع يده عليها، فاطمأنَ، وسكن، وخرج، وذهب ما كان سيقوم به من صوت عال، وحديث يُخشَى منه على الرحلة كلِّها، فقامتْ بواجبها، وأما السيدة أسماء ـ رضي الله عنها ـ فقد كانت مهمتها خطيرة، حيث مثلتْ كتيبة الإمداد والتزويد وكتيبة التعمية والتخفِّي، طيلة فترة الرحلة، واختيرَتْ بعناية فائقة؛ حيث كانت حاملُا، والحامل قبل وضعها تحتاج إلى أن تمشي كل يوم فترة من الزمن، فإذا خرجتْ لم يَشُكَّ أحدٌ من الناسُ في خروجها للمشي والتريُّض، ولأجل متطلبات الحمل الصحية، ثم إنها بنت أكرم الناس، وأبوها محبوبٌ بين الخلق جميعًا في مكة، وهي حُرَّة، فلن يتعرض لها أحد، ولن يتتبعها في مشيها إنسان، ولن يمضيَ وراءها، ولا يجرؤ أحدٌ أن يتتبع بنت أسمى الرجال، وأحبهم في قومه، وأعزهم عليهم جميعًا، وبالفعل نجحتْ المهمة المنوطة بها، وكانت نظرةً دقيقةً غايةَ ما تكون الدقة، وَوُضِعَتْ في موضعها الصحيح، وأسهمتْ في نجاح الهجرة، وسماها الرسول (ذاتَ النطاقين)، وأخذت هذا الوصف بسبب اجتهادها في حمل الطعام، وتغطيته، وشقها نطاقها نصفين؛ لتحمل الطعام، وتخفيه بصورة صحيحة، ولأن طلوع الغار يتطلب قدراتٍ وطاقات، وأدوات خاصة، فأبدلها الله به نطاقين في الجنة، وبشَّرها الرسول بذلك.
أما مهمة الشابِّ الأمين عبد الرحمن بن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فهي مهمة كبيرة، وصعبة، ومن الممكن ـ لا قدّر الله ـ أن تنكشف، فينكشف معها كلُّ شيء، غير أن الاختيارَ الدقيق، والدراسة المتأنية له ولقدراته كانت قد آتتْ أكلها حيث كان سحابةَ النهار يحصد ما في أفواه قريشٍ، وما تنويه كل يوم، ويرتبه، ويجمعه، ثم بالليل يصل بنفسه حيث لا يراه أحدٌ، ولا يشك فيه أحدٌ، حيث تنام عينُ قريش، فيجعله بين يدي الرسول الكريم، وأبيه أبي بكر، وقبل طلوع الفجر يعودُ قبل أن يصحوَ الناس من نومهم، فيروه بين ظهرانَيْهِم نائمًا، أو قائما، وظل الأيام الثلاثة ربيئة صادقة، يقوم بدور المخابرات العامة، ولجان التقصي، والبحث، والتروي، فقام بمهمته خير قيام؛ جراء دقة اختياره، وحسن استثمار طاقاته، وقدراته.
فقام بيت أبي بكر كاملا بمهمات ضخام، وأعمال جسام، وكان له أكبر الأثر في وصول الهجرة إلى بر الأمان، وانتهت المرحلة الأولى من أحداث الهجرة معهم على خير، وتمت على أكمل وجه، وأحسن هيئة.
وكانت مهمة عليِّ بنِ أبي طالب ابنِ عم الرسول الكريم مهمة الأعمال القتالية الاستثنائية، والأعمال الفدائية الخاصة، حيث عُهِدَ إليه بالنوم في مكان الرسول الكريم، والتعمية على المشركين، حتى إذا نظروا من ثقب الباب وجدوا الغطاء النبوي المشهور موجودًا على جسد النائم، فيظنوه الرسول الكريم، فيطمئنوا على وجوده، وانتظروا حتى استيقظ من نومه ونفض الغطاء عن جسده، وضاع منهم وقت كبير، وراح منهم إدراك الرسول، وصاحبه؛ حيث مضوا وقتا طويلا في السفر، ومضى منهم الزمن، وراح ما يريدونه، وخرج الرسول من الغار بعد انتهاء المهلة التي حددها الله له، وهي ثلاثة أيام، أي بعد انتهاء طلب قريش من اللحاق بهما، وقطعا معًا شوطًا طويلًا من الطريق، لا يمكن معه إدراكهما، وقام عليٌّ من نومه، ففوجئوا به عليًّا، لا رسولَ الله، وكانوا أربعين شابًّا جلدًا مختارين من أربعين قبيلة حتى إذا انهالوا عليه قتلًا ساح دمُه الشريف بين القبائل وما استطاعت قبيلته، وعشيرته بنو هاشم أخذ القصاص منهم جميعان والرضا بالدية، وتنتهي القصة، فخابوا، وخسروا، وفشلوا، وكان الرسول الكريم قد حثا على رؤوسهم التراب، وهو خارج من بيته، لأن الله أنامهم جميعًا له بقدرته ـ جلَّ جلاله ـ ووضع الران على العقول الخربة المخرِّفة التي لا تعرف أن الله بقدرته يفعل ما يشاء، فاستُعمِل التراب ـ وهو يمثل شريحة الجماد مثل الغار ـ كسلاح يؤكِّد على اهتراء عقلهم، وخَرَفِهم، وجهالتهم بطبيعة القدرة الربانية، كما أن شريحة الطير كاليمام، وشريحة الحشرات كالعنكبوت ـ وإن كان فيهما كلام ـ قد قامتْا هي الأخرى بدورها، فعمِّتْ عليهم، وأبعدتهم عن الرسول الكريم، وصاحبه، وقالوا بظنهم: (لو دخلا الغار لطارت اليمامة، ولانهدم بيت العنكبوت، وتكسر البيض)، ومع أن هذا هو شيءٌ يسير، لكنْ، كان له أثر في نجاح الهجرة، والعجيب أن يقول سيدنا أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في لحظة وصول أقدام الكفار، وبحثهم إلى موضع الغار نفسه؛ نتيجة معرفتهم بقصِّ الأثر، ومعرفة أين ذهب كلُّ إنسان، وشاءت إرادة الله ـ جلَّ جلاله ـ أن يصلوا إلى موضع وجودهما، ومكانهما، ومقامهما، ولكن الله أعمى عقولهم، وأعينهم عن رؤيتهما، وقال أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه (كناية عن قرب الرؤية وإمكانها) لرآنا، ولكنْ، ردَّ الرسول ردًّا يبيِّن قمة اليقين، وتمام حسن الاتصال بالله، وكمال التسليم بقدرته سبحانه، حيث قال له بكل هدوء، وثبات قلب، رغم أن العبارات النبوية المقولة كلها أساليب تتطلب رفع الصوت، فهي ما بين أسلوب نداء جهوري الصوت، أو نداء تعجب يفغر معه الفُوهُ، وتنفتح العينان، وأسلوب الاستفهام عالي النبرة، وأسلوب النهي، ومعروفة كيف هي (لا الناهية) وكيف تنطق في علو صوتها، واختلافها عن (لا النافية) في خفض نبرتها، ومعلوم أسلوب التوكيد، وأن المرء أحيانًا يضرب اليدَ على المكتب، أو الطاولة لبيان قوة دلالته، والأسلوب الخبري الذي يقال بصوت مسموع متَّئِد، حاول استطعام ذلك في القول النبوي الشريف:(يا أبا بكر، ما بالك باثنين، الله ثالثهما؟!، لا تحزن، إن الله معنا)، ولعل كلمة: (معنا) تضفي دلالة عقدية خاصة مهمة، قد لا يلحظ دلالتها كثير من المسلمين، وهي أن الله تعالى لا يرى، كما قال تعالى:(لا تدركه الأبصار..)، ومَنْ كان الله معه، أضفى الله عليه من صفاته، فهم إذن لا يُرَوْنَ، ولن يُرَوْا حتى لو نظر هؤلاءِ تحت أقدامهم ـ كما قال سيدنا أبو بكر ـ بسبب أن الله معنا، فهي حقًّا آياتٌ عجيبة، ورحلة رهيبة، فيها كل الدلالات الإيمانية السامية، والمعاني العقدية الراقية، الدالة على قدرة الله، وعدم ترك حبيبه لهؤلاء المشركين، وأنه ناصرٌ عبده، ومظهر دينَه، وهدَاه.

* د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]