ما زلنا في منطقتنا، بل وربما العالم كله، يعاني من تبعات غزو واحتلال العراق الذي استند إلى ما بين الاقتباس والإبداع من سرقة وتلفيق. ولا نبالغ إن قلنا إن سرقة موسيقى أو تزييف لوحة فنية مسروقة لادعاء إبداعها لا يقل تأثيرا عن «دوسيه مخابرات بلير».

لا يوجد في الأدب والفن، ومختلف فنون الإبداع، من لم يتأثر بغيره حتى إن أجاد وتميز بعد ذلك ليتحول إلى “مبدع أصيل” لا يشبه إنتاجه أحد. إنما هناك فارق شاسع بين التأثر والتقليد الذي لا يمكن أن يؤدي إلى أي أصالة أو تميز في الإبداع. وهناك درجة أخرى أبعد من التأثر، هي الاقتباس؛ أي أن “يقتبس” الأديب أو الفنان من إبداع غيره ويبني عليه أو يضمنه إبداعه الخاص. وفي حالة الاقتباس، يشير المبدع الحقيقي لما اقتبسه حتى لا يبدو وكأنه من إنتاجه. والاقتباس موجود بشكل أوضح في الدراسات الأكاديمية والأعمال الإبداعية غير الفنية أو الأدبية. فلا أحد يبدأ من فراغ، لكن في كل تلك الأحوال هناك أصول تتعلق بتوثيق المقتبس والإشارة بوضوح إلى مصدره في عملية ثبت المراجع.
كما أن كثيرا من الأعمال الإبداعية الكلاسيكية كانت مصدر اقتباس لآخرين على مرِّ الزمن، عدلوا وحوروا وأضافوا رؤيتهم سواء لإنتاج عمل فني أو ثقافي بشكل أو بآخر. ورغم أنه أحيانا لم يكن يشار للمصدر المقتبس منه، لكن من يدقق كان يعرف بوضوح أن ذلك “اقتباس” وليس إبداعا خالصا أصيلا. أما في الأبحاث والدراسات غير الأدبية، فعدم إثبات المراجع وتحديد ما هو مقتبس ينتقص من قيمة العمل وجودته بل وأحيانا يجعله غير ذات قيمة. ولم يخلُ تاريخ الإبداع في الفن والثقافة وحتى العلم والأكاديميا من عمليات “نصب”، أي أن يأخذ مبدع عملا آخر وينسبه لنفسه، وحتى وإن أضاف بعض الرتوش غير ذات القيمة التي لا تغير من جوهر المحتوى العام. وتاريخ الفكر والثقافة في العالم مليء بعمليات “السرقة الأدبية” أو “السرقة العلمية”، التي كان اكتشافها قديما يتطلب جهدا ومعرفة واسعة. ورغم أن البعض كان يحاجج بأن ذلك من باب “توارد خواطر”، إلا أن المختصين بالأدب والفن والعلم والأكاديميا يمكنهم الحسم فيما هو توارد خواطر وما هو اقتباس وما هو تلفيق وسرقة واضحة لجهد الآخر.
مع تطور التكنولوجيا ووسائل الاتصال وإتاحة المعلومات بشكل يتسم بالوفرة الشديدة وسهولة الوصول إلى كل شيء تقريبا، أصبح السطو على الإبداع أسهل كثيرا. بل إن الابتكارات التكنولوجية المتتالية والسريعة جعلت “التلفيق الإبداعي” أمرا في غاية اليسر. وإن كانت التكنولوجيا ساعدت في تطوير برامج لكشف “السرقة العلمية” في الأبحاث والدراسات، إلا أن الإبداع في الفن والأدب لم يحظَ بتلك الميزة. فهناك الآن برامج حاسوبية (كمبيوترية) تطبق على الأبحاث والدراسات فتحدد مدى النقل وحجم المحتوى الأصيل فيها. ويستخدم الأكاديميون تلك البرامج لحسم مسألة سرقة الأعمال plagiarism كي يعد البحث أصيلا أو منقولا. أما في الفن والأدب، فلأن المحتوى الإبداعي مثل الشعر والقصة والمسرحيات وحتى الرسم والموسيقى وغيرها هو نتاج حر لا تحكمه قواعد علمية صارمة كالتي تطبق على الأبحاث والدراسات العلمية والأكاديمية، فيسهل النقل إلى حدِّ السرقة. هذا يختلف تماما عن الاقتباس أو الإبداع الموازي كما يسميه البعض وحتى عن ادعاء توارد الخواطر والأفكار.
لكن التكنولوجيا ووسائل التواصل الرقمية وإتاحة المعلومات بشكل واسع وسهل، كما يسرت الاقتباس والاقتناص والسرقة أسهمت أيضًا في تسهيل اكتشاف تلك الحالات. فأصبح من السهل ببرنامج حاسوبي (كمبيوتري) بسيط، ومتاح مجانا أحيانا، أن تختبر إن كان العمل الإبداعي أصيلا أم منقولا أم مقتبسا. حتى التزوير الإلكتروني في الصور والفيديو يمكن الآن كشفه ببرامج ربما أكثر تعقيدا بقليل من تلك التي تكشف سرقة النصوص. ربما يكون ذلك مفيدا في حالات العلم والأبحاث الأكاديمية، لكن في الأعمال الأدبية والفنية لن يكون مهمًّا اكتشاف السرقة والتزييف والتلفيق بعدما وقع تأثير المنتج المفبرك على الجماهير. لأن النتيجة التراكمية هي انحطاط الذوق العام و”تمييع” كل ما يتعلق بالأصالة الفنية وفي المحصلة الأخيرة “قتل” ملكات الإبداع لدى البشر طالما كل شيء متوافرا على الإنترنت و”البركة في جوجل”!
ربما يبدو مثل هذا الحديث من باب الترف، والاهتمام بأمور ثانوية كأصالة الإبداع في الفن والفكر. ولن أسوق مبررا بأهمية الأصالة والإبداع الخالص في تطور البشرية واستمرار حضاراتها وتطورها. لكن سأضرب مثالا قريبا نتذكره جميعا عن خطورة ما يتجاوز الاقتباس إلى التلفيق والنصب المعلوماتي. فجميعنا يذكر “دوسيه” المخابرات البريطانية الذي لوح به رئيس وزراء بريطانيا العمالي السابق توني بلير مطلع القرن مبررا حرب غزو واحتلال العراق. وكانت خلاصة الملف المخابراتي أن العراق يمكنه إنتاج قنبلة نووية في غضون ساعة إلا ربع. وبعد الحرب والغزو والاحتلال اكتشف العالم كله، نتيجة تحقيقات بريطانية، أن الدوسيه الشهير في أغلبه معلومات منقولة من على الإنترنت لفقها بعض المعارضين العراقيين في الخارج، وأنه لا يستند إلى أي مصادر استخباراتية حقيقية (أي أصيلة). ما زلنا في منطقتنا، بل وربما العالم كله، يعاني من تبعات غزو واحتلال العراق الذي استند إلى ما بين الاقتباس والإبداع من سرقة وتلفيق. ولا نبالغ إن قلنا إن سرقة موسيقى أو تزييف لوحة فنية مسروقة لادعاء إبداعها لا يقل تأثيرا عن “دوسيه مخابرات بلير”، وإن كان ذلك التأثير أطول أمدا وأبطأ تهديدا من تبعات الحرب لكنه ربما كان أشد خطرا على مستقبل البشر.

د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]