أيها القراء الكرام .. إن الإسلام دين أكمل الله تعالى به الرسالات وأتمها، وهيمن على ما أنزله الله من كتب قبله وصححها، يقيم ما اعوج منها، ويعيد إلى الجادة ما انحرف منها، ويصوب أخطائها، ويوكد على ما صح منها، فالإسلام هو الجامع لما تبعثر من الأفكار والفهوم، وهو الكاشف لما أعتم من ضلالات الغيوم، وهو المظهر لما أخفي من حقائق العلوم، وهو المحق لما بطل من الظنون، وهو الموحد لما تفرق من أهواء الأنفس وضلالاتها، فالإسلام هو الدين الذي جاء به جميع الأنبياء والمرسلين، حتى اكتمل بخاتم النبين محمد (صلى الله عليه وسلم). فمثلًا الصيام وهو من أركان الإسلام هو أيضًا مما أمر به الأنبياء والمرسلون من قبل، ومن الصيام صوم (يوم عاشوراء)، فقد كان هذا اليوم له مكانة خاصة بين الأنبياء والمرسلين على اختلاف أقوامهم وأزمانهم، فعند سيدنا نوح (عليه السلام) كان ليوم عاشوراء مكانة خاصة منزلة عظيمة، ففي الحديث:(عن عبد العزيز بن عبد الغفور، عن أبيه، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: في أول يوم من رجب ركب نوح السفينة، فصام هو وجميع من معه، وجرت بهم السفينة ستةَ أشهر، فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست السفينة على الجوديّ يوم عاشوراء، فصام نوح، وأمر جميع من معه من الوحش والدوابّ فصامُوا شكرًا لله)، وعن ابن جريج قال: كانت السفينة أعلاها للطير، ووسطها للناس، وفي أسفلها السباع، وكان طولها في السماء ثلاثين ذراعًا، ودفعت من عَين وردة يوم الجمعة لعشر ليالٍ مضين من رجب، وأرست على الجوديّ يوم عاشوراء، ومرت بالبيت فطافت به سبعًا، وقد رفعه الله من الغرق، ثم جاءت اليمن، ثم رجعت،وعن قتادة، قال: هبط نوح من السفينة يوم العاشر من المحرم، فقال لمن معه: من كان منكم اليوم صائما فليتم صومه، ومن كان مفطرًا فليصم، وعن قتادة ـ أيضًاـ قال: ذكر لنا أنَّها ـ يعني الفُلك ـ استقلَّت بهم في عشر خلون من وجب، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت على الجودي شهرًا، وأهبط بهم في عشر ـ خَلَوْن ـ من المحرم يوم عاشوراء)(جامع البيان للطبري، ت: شاكر 15/‏ 335).
وفي زمن سيدنا موسى (عليه السلام) فقد نجاه الله تعالى في هذا اليوم العظيم (يوم عاشوراء)،
ولهذا كلما جاء هذا اليوم من كل عام احتفل اليهود وجعلوه عيدا، حتى قدم رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم)المدينة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:(مَرَّ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِأُنَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ وَقَدْ صَامُوا يَوْم عَاشُورَاء، فَقَالَ: ما هَذَا الصَّوْمِ؟ فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْغَرَقِ، وَغَرِقَ فِيهِ فِرْعَوْن، وَهَذَا الْيَوْم اسْتَوَت فِيهِ السَّفِينَة على الجودي، فصامه نوح ومُوسَى ـ عَلَيْهِمَا السَّلَام ـ شكرًا لله عزوجل، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى وَأَحَقُّ بِصَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمه، وَمن كَانَ مِنْكُم قد أصَاب من غَد أَهْلِهِ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ) (قصص الأنبياء 1/‏112).
بل وكان هذا اليوم العظيم من بدايات الصيام حتى فرض رمضان، ففي تفسير البغوي إحياء التراث 1/‏ 214): (أيامًا معدودات، قيل: كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجبا، وصوم يوم عاشوراء، فصاموا كذلك من الربيع إلى شهر رمضان سبعة عشر شهرا، ثم نسخ بصوم رمضان، قال ابن عباس: أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة والصوم، كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة، وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه).
ومن عظيم أجر صيامه أيضًا ما ورد في (السنن الصغير للبيهقي 2/‏ 117):(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ صَوْمِهِ؟ فَغَضِبَ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ؛ فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دَيْنًا وَبِكَ نَبِيًّا، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَدِّدُ ذَلِكَ حَتَّى سَكَنَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ، أَوْ قَالَ: مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ فَقَالَ: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ يُفْطِرُ يَوْمَيْنِ وَيَصُومُ يَوْمًا؟ فَقَالَ: لَوَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَقُولُ فِي صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ فَقَالَ: ذَلِكَ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ ـ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَقُولُ فِي صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ قَالَ: إِنِّي لَأَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ)..فطوبي لمن صامهوتقبل الله منا ومنكم.

* محمود عدلي الشريف
[email protected]