لا شكّ أنّ كلّ قارئ لدّيوان (غارق يغني) يدرك غلبة النّفس العاطفيّ عليه، فأشعار الحبّ فيه كثيرة، و فيها عمق وتلقائيّة وسلاسة في التّعبير .ففي حضرة المعشوق تجد النّفس سكينتها، وينتفي التوتّر من القصيدة، وتغيب كلّ أشكال التّناقض والمفارقات . فكأنّ روح العاشق قد وجدت في حضرة المعشوق أمنها وسلامها و تناغمت مع العالم حولها ، بل مع الوجود بأسره، وانعكس ذاك التّناغم على النّصوص الشعريّة فانسجمت مكوّناتها وتآلفت معانيها وتعاضدت لتصوّر حالا من العشق يصل حدّ الوله والشّغف .
يقول سعيد الصّقلاوي في قصيدة سمّاها (الجسر)
عَلَى جِسْرِ هَذَا الصّبَاحِ
عَبَرْتَ إِلَيَّ
عَبَرْتُ إِلَيْكَ
تَلاَقَتْ رُؤَى العَابِرِينَ
عَلَى مُقْلَتَيْنا
تَبَسَّمَ وَرْدُ الزَّمَانِ
عَلَى شَفَتَيَّ
وَ فِي وَجْنَتيّكَ
بيّنٌ أنّ التّناغم يسود علاقة الشّاعر العاشق بمعشوق يناجيه، ويهديه كلمات حبّ صادقة، فيها هي الأخرى تناغم وانسجام حكم حتّى الألفاظ، فتكرّرت وتجاورت، بعيدا عن التّنافر والتّناقض (عبرتَ / عبَرْتُ ، تلاقت ، تبسّم على / و في)
هذا التّناغم البعيد عن كلّ أشكال التّناقض والتّنافر نجده أيضا في قصيدته (فؤاد):
مَكَانٌكَ فِي الفُؤَادِ وَأَنْتَ أَدْرَى
بِأَنَّكَ فِي الفُؤَادِ هَوًى مُقِيمُ
وَ أَنّكَ أَيْنَمَا وَلَّيْتَ فِيهِ
سَتُبْصِرُ جَنَّةً وَ رِضًى يَدُومُ
وَأَنَّكَ في مَحَبَّتِهِ الكَرُومُ
وَ أَنَّكَ فِي مَبَاهِجِهِ النُّجُومُ
فالتّناغم تجاوز الرّوح العاشقة وعلاقتها بالمعشوق، ليحكم علاقة الأرض بالسّماء ، والدّنيا بالآخرة أي المدنّس بالمقدّس . فزال عن القصيدة كلّ توتّر، وغاب عنها كلّ تناقض، أو عدم اتّفاق .
ومثل هذه النّماذج كثيرة في الدّيوان، تدلّ دون شكّ على حقيقة مفادها أنّه إن سكن الحبّ النصّ الشّعريّ، حلّت فيه سكينة عجيبة وقلّ فيه التوتّر، لينعكس ذلك كلّه على بناء النصّ وأساليبه فتقلّ المقابلات وتخفّ المفارقات باستثناء بعض القصائد التّي تحضر فيها الشّكوى من قسوة المعشوق وهجره . وذلك على نحو ما نجده في قصيدة (مرّرت أيّامي) التّي أجرى فيها الشّاعر جملة من المقابلات بين الماضي السّعيد والحاضر الحزين، بين الوصال والهجر، بين الحبّ و الصدّ . يقول :
مَرَّرْتُ حَوْلَكَ
أَيَّامِي
لِتَذْكُرَهَا
فَصِرْتَ تَجْهَلُهَا
شَكْلًا وَمَضْمُونا
وَكُنْتَ تُدْرِكُهَا ...
تَطِيىرُ مُبْتَهِجًا
لَكِنَّكَ اليَوْمَ عَنْهَا
رُحْتَ مَفْتُونا
و الواقع أنّ ما ذكرناه آنفا من غياب التّناقض والمفارقات في قصائد العشق الخالصة، يجعلنا نقرّ بأنّ التّعويل على التّناقض أسلوبا مقترن أساسا بدرجات (التوتّر) في النصّ . وذلك بديهيّ لأنّ المفارقة أصلا تعرّف بضرب من التوتّر الدّلاليّ في النصّ، ممّا يشدّ الانتباه ويحثّ المتلقّي على كدّ الذّهن في تجاوز المعنى الظّاهر من النصّ إلى المعنى الخفيّ الكامن في أغواره و ثناياه العميقة .وقد أجاد سعيد الصّقلاوي توظيف المتناقضات وخلق المفارقات في ديوانه بدءا بالعنوان، فالتّصدير، فالقصائد . مؤكّدا حقيقة أخرى مفادها أنّ الحقيقة في المطلق لا تُدرك إلّا عبر المفارقة .ولعلّه لهذا السّبب تحديدا وُظِّفت المفارقة عند الشّعراء القدامى وبرع فيها خاصّة أبو تمّام، ووظّفها الشّعراء المحدثون في الشّرق والغرب .ثمّ إنّ المفارقة تحمل معنى الصّراع، وما الكون كلّه إلّا صراع بين الوجود والعدم، بين القوّة والضّعف، بين الحياة والموت، بين الفضيلة والرّذيلة، بين العدل والظّلم ... وعندها ندرك أنّ المفارقة هي الوجه الحقيقيّ للكون وللوجود، بل هي فلسفة واقعيّة في الحياة والغارق الذّي يغنّي ترجمة بليغة لها .
الخاتمة :
عكس ديوان سعيد الصّقلاوي (غارق يغنّي) الحقيقة في معناها الفلسفيّ والأدبيّ في آن واحد : فهي في الفلسفة لا تُدرك إلّا عبر المفارقة . وهي في الأدب توتّر دلاليّ يكشف حقيقة الكون القائم على الصّراع . وقد جاءت المفارقة عند الشّاعر خفيّة تسكن (المسكوت عنه) من النصّ وإن وشى بها (التّناقض الظّاهر) في شكليه البلاغييّن، نقصد الطّباق والمقابلة .و لعلّنا لا نبالغ إن قلنا إنّ الشّاعر في هذا الدّيوان وهو يبني المفارقات بالشّعر و في الشّعر إنّما يتطلّع إلى كشف حقائق الأشياء باستحضار الدّوافع والعناصر المتضادّة فيها، وهو في ذلك كلّه لا يخرج عن تعريف القدامى من النقّاد والأدباء للشّعر حين جعلوه معرفة و ربطوه بالفطنة .
وتفطّن الشّاعر في هذا الدّيوان إلى ما في الكون من مفارقات يجعل شعره بليغا ساحرا، من جهة ما يفرضه على المتلقّي من كدّ الذّهن لفهم الخفيّ من الكلام، ومن جهة ما يحدثه فيه من لذّة الاكتشاف : اكتشاف الحقيقة المخبّأة وراء ستار الظّاهر والمرئيّ من الأشياء . ولهذا نذهب إلى اعتبار المفارقة في (غارق يغنّي) من أهمّ مولّدات الشعريّة في الدّيوان، بل لعلّها أهمّ مغارس الجماليّة فيه باعتبارها عرضا مدهشا للمتناقضات ، ورؤية غير متوقّعة لعوالم متضادّة من المشاعر والأحاسيس والأحلام والأغنيات .ويظلّ أبلغها في نظرنا تلك المفارقة الجميلة بين لذّة البوح وبلاغة الصّمت التّي عبّر عنها سعيد الصّقلاوي بوضوح حين قال :
وَلِمَاذَا يُغْرينَا بَوْحٌ
وَالصَّمْتُ لَناَ مَعْبَدْ؟
ويبدو الدّيوان في تقديرنا كثيف المعاني والدّلالات ، لم يبح بعدُ بكنهه، ورغم إيماننا ببلاغة الصّمت فإنّنا لم نستطع أن نصمت ونحن نقرأ الدّيوان لما أثاره فينا من مشاعر ورؤى وأفكار، ولهذا كلّه، نأمل أن تكون دراستنا هذه للدّيوان قطرة تبشّر بالغيث، و قراءة نقديّة تشارك الشّاعر لذّة اكتشاف حقائق الوجود والنّفاذ إلى جواهر الأشياء .


أ.د. سامية الدّريدي
جامعة تونس
كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس