كان ودودا للغاية في علاقته الإنسانية بي، بكل البشر، إلا فيما يتعلق بالحق، يتجيش ليخوض حربا ضروسا، والحق كان يراه في أستاذه الكاتب والمفكر الكبير عباس العقاد، كان آخر تلاميذه المتمسكين بصرامة منهجه، وبلغ من عشقه لأستاذه أن اختاره موضوعا لرسالة الدكتوراه التي حصل عليها من جامعة مدريد.
أسمى الشاعر عبد اللطيف عبد الحليم ابنه "همام" ، وابنته "سارة " ، و"همام" هو العاشق في رواية العقاد الوحيدة "سارة" ، وهمام هو العقاد نفسه، فما كانت الرواية سوى سيرة ذاتية لصاحب العبقريات، وعرف الشاعر الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم في الأوساط الثقافية، وفي دار العلوم بجامعة القاهرة حيث كان يدرس، وبين الأقارب والأصدقاء بأبي همام، لكن البعض كان يراه مغاليا في تمسكه بنهج أستاذه.
هل قلت إنه كان ودودا للغاية، إلا فيما يتعلق بالحق؟ ، عرفناه أيضا هكذا، عمانيون ووافدون خلال سنواته العمانية، أعني تلك السنوات التي أمضاها في السلطنة، أستاذا بجامعة السلطان قابوس، أظن في مطلع إنشاء الجامعة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وحتى أوائل التسعينيات، بل بدا في عيون الكثيرين أكثر تصلبا في أرائه من أستاذه، كان العقاد شديد العداء لأي تغيير في شكل القصيد، وجميعنا نعرف حكاياته الشهيرة في هذا الشأن، حين أعلن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عام 1956 عن مسابقة شعرية بين الشعراء الشباب فتقدم إلى المجلس طائفة من الشعراء بقصائد ما بين الشكل العمودي المعروف والشكل التفعيلي الذي كان قد بدأ يظهر ويعلن عن نفسه بقوة ووضوح. وقد تقدم المجلس بهذه القصائد كلها إلى لجنة الشعر لتنتقي منها ما يستحق الجوائز التي رصدت لهذا الغرض. تحمس بعض أعضاء اللجنة لعدة قصائد، منها واحدة من نظم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وكانت تفعيلية، إلا أن العقاد الذي كان مقرر لجنة الشعر بالمجلس وقتها استبعد كل القصائد التفعيلية من المسابقة، بل وأحالها إلى لجنة النثر، فهي نثر في زعمه وليست شعراً، فاشتعلت معركة الشعراء التفعيليين معه والتي ظلت قائمة حتى رحيله عام 1964، وبلغت المعركة ذروتها في سبتمبر عام 1961 حين دعا المجلس ـ وكان أمينه في ذلك الوقت الروائي يوسف السباعي ـ الشاعرين صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ليمثلا مصر في مهرجان شعري في دمشق، وبعد سفر الوفد أبرق العقاد إلي يوسف السباعي في دمشق، مهدداً بالانسحاب من لجنة الشعر في المجلس إذا ما سمح للشعراء المصريين بإلقاء قصائد من الشعر الجديد، فإما أن يشاركوا بقصائد عمودية أو يعودوا بلا مشاركة في المهرجان، وإلا فسيستقيل من اللجنة. وأصر الشاعران على إلقاء قصائد تفعيلة، وحين رفض يوسف السباعي تحت وطأة ضغوط العقاد، عاد الشاعران إلى القاهرة دون أن يشاركا في المهرجان، وكان حجازي الأكثر سخطا، فكتب قصيدة هجاء شديدة العنف في العقاد، واختار لها الشكل العمودي، نشرت القصيدة في صحيفة الأهرام، وكان أحد مقاطعها "تعيش في عصرنا ضيفا وتشتمنا"، فرد العقاد في حديث لجريدة المساء "بل هم الذين يعيشون ضيوفا في عصر العقاد"
وكأن أبو همام في عدائه للعمود يتمثل موقف أستاذه تماما، فأمضى حياته النقدية مهاجما شرسا لكل شاعر يستجيب لوسوسة "الشيطان" ويعبث بالعمود الشعري، أو يخرج عنه، حتى أنه أخرج في دراسة له عن الشعر العماني الشاعر الكبير سيف الرحبي من زمرة الشعراء ! وكان يرى أن ما يكتبه يبند في خانة النثر، تماما مثلما فعل العقاد مع شعراء التفعيلة، وفي حوار أجريته معه في مطلع تسعينيات القرن الماضي "لا أتذكر إن كان قد نشر في مجلة المنتدى الإماراتية أو الأسرة العمانية"، قال لي: قصيدة النثر لن تعيش أكثر من بضع سنوات، بالطبع نبوءته لم تتحقق، فقصيدة النثر مازال مبدعوها يغردون، ومازال هناك من يطربهم تغريدهم، وإن كان الصخب حولها تلاشى إلى حد كبير، لكن عشق أبي همام للعمود لم يكن بالعشق الأعمى، كانت له بصيرة عادلة في هذا الشأن غير بصيرة النقاد المتأدلجين الذين يهللون لكل "إبداع" يتفق مع هواهم الفكري، حتى ولو كان يعاني من أنيميا حادة في المقتضيات الفنية، ولقد نوه الشاعر فاروق شوشة لما يملكه أبو همام من بصيرة موضوعية تمكنه من تشكيل رؤية صحيحة للحصاد الشعري، حيث قال نصا في مقال له حول أبي همام نشر في صحيفة الأهرام تحت عنوان "عموديون يسبحون ضد التيار حول أبي همام" ، لكنه لافت ـ في الوقت نفسه ـ إلى ما ينشر من كلام موزون مقفى‏,‏ لكنه ليس شعرا‏، وينبه إلى أن هذا النمط من الكلام يفسد ذوق الأمة‏,‏ فيقول‏:‏ هو الشعر الذي يلتزم الشكل الموزون المقفي‏,‏ دون أن يتجاوزه إلى جوهر الشعر الصحيح‏,‏ ويجد من يحتفي به في وسائل الإعلام‏.‏ ثم يقول‏:‏ وفي رأينا أن هذا النمط أكثر إفسادا من الشعر الحر‏,‏ والحداثة،‏ أو الحساسية الجديدة‏,‏ وحتى ما يسمي قصيدة النثر‏، لأن هذه الضروب الأخيرة لا تخدع القارئ الطبن‏,‏ كما يخدعه الكلام الموزون المقفي‏,‏ أو النظم كما يطلق عليه بدقة‏.‏ وإني وإن كنت من أنصار الكلام الموزون المقفى‏,‏ إلا أنني من ألد أعداء النظم مدركا الفساد الهائل الذي يصنعه‏.‏
وما كان أبو همام كما يظن البعض مناوئا للحداثة في جوهرها الذي أسست عليه، بل للفهم المتعجل والخاطئ في عالمنا العربي للحداثة، وقد أوضح هذا في أحد حواراته الصحفية، حين قال إن الحداثة بدأت على يد شاعر نيكاراجوا روبن داريو المتوفي سنة 1916، وقد كتب عن الحداثة سنة 1888، وهو الذي نشر في العالم اللاتيني كله ثم منه إلى العوالم الأخرى، مسألة الحداثة، والحداثة في عرف هؤلاء ـ يستطرد أبو همام ـ تعني الحفاظ الوعر على الموسيقى والتعبيرات الجيدة والافادة من التراث، هذه هي الحداثة التي يعرفونها، أما الحداثة التي هنا فهي شيء ممسوخ لا صلة له بالحداثة ولا بالفن، لأنها انسلاخ كامل عن كل الجذور والقواعد والاصول.
وينتهي أبو همام إلى أنه لا توجد حداثة لها قيمة في العالم العربي، وليست ـ سطوري هذه ـ مرثية في الرجل الذي غادرنا صباح السادس عشر من ديسمبر الماضي، بل محاولة لرؤية موضوعية لعوالم الراحل الأدبية، لكن لا يمكن أن أنهيها دون الإشارة إلى لفتة منه تسكنني شعورا بالعرفان بالجميل، رغم مضي أكثر من عقدين، فلقد كان أول من تحدث عن أدبي القصصي نقديا، كان ذلك في حديث أدلى به للإذاعة المصرية عام 1992 عقب صدور مجموعتي القصصية "هموم امرأة متمردة" وأتجاوز الحقيقة إن قلت إن هذا وحده الذي وحدني بعالمه الإنساني، بل أيضا ـ وربما الأهم ـ صراحته ووضوحه ورفضه أنصاف الحلول أو المهادنة أو محاولة اختزال المسافات مع من يملكون الحل والربط لأغراض شخصية، لهذا كثرت معاركه، لهذا كان حظه من الشهرة دون حظ آخرين دونه قامة، لكن، يقينا حين حصل على جائزة كجائزة البابطين عام 2000 ، لم يجرؤ أحد أن يقول عنه ما يقال عن آخرين إنهم يقتنصون الجوائز لأسباب آخرها، جودة ما يكتبون! حين يحصل أبو همام على جائزة فثمة سبب وحيد، جودة ما يكتب .

محمد القصبي