- استذكر لمحات من حياته ومسيرته الإبداعية وحوارا طويلا عنه

مسقط ـ «الوطن»:
في إصداره الجديد، يوثق الأديب أحمد الفلاحي بعض ما كتبه من مقالات عن الأديب الراحل عبدالله بن محمد الطائي في مناسبات زمنية مختلفة، معتبرا الكتاب أقل ما يقدمه لهذه الشخصية التي ارتبط الفلاحي بها، منذ عمله في قسم الأخبار بالإذاعة مطلع عام 1971م، بطلب من عبدالله الطائي الذي كان حينذاك وزيرا للإعلام.
الكتاب حمل عنوان (مع عبدالله الطائي) وصدر عن مؤسسة الانتشار العربي، وصدره الفلاحي بمقتطف من محاضرة قدمها الأديب عبدالله الطائي في نادي مسقط في العام 1971م، وحملت عنوان (علاقة عمان بالدول العربية)، وفيها يشير إلى أن (عمان هي البلد العربي الذي يرهن بتصرفاته منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد على تعلقه بعروبته وعلى إدراكه إدراكا حقيقيا للروابط الموجودة بينه وبين البلاد العربي، وذلك لأسباب كثيرة ومن هذه الأدلة على هذا الارتباط العريق حادثة حدثت في عهد سرجون الأكدي ملك العراق. وكانت عمان في ذلك الوقت من أشهر البلدان في استخراج النحاس، والدول حينها تتصارع على النحاس كما يتصارعون اليوم على النفط).
يحمل الكتاب 6 مقالات كتبت في فترات مختلفة، بالإضافة إلى حوار سابق مع مؤلف الكتاب حول شخصية الأديب عبدالله الطائي، وقد تنوعت عناوين المقالات، بين لمحات من سيرة عبدالله الطائي، وتجربة عبدالله الطائي الروائية، وعبدالله الطائي المثقف الرائد، وعبدالله الطائي في ذكراه الخامسة، ولأكثر من عقدين ألهبت الغربة شعره، والمقالة عند عبدالله الطائي.
يكتب الأديب أحمد الفلاحي، في مقدمة الكتاب قائلا: فرضت شخصية الأستاذ عبد الله الطائي نفسها منذ بداية شبابه الأول، حيث أهتم بقول الشعر والتغني به، وكذلك بالكتابة النثرية، التي واصل نشر مقالاتها في الصحف حول مواضيع مختلفة بالإضافة إلى برامجه الإذاعية التي يبثها على الإذاعة في البحرين والكويت وأبوظبي ومسقط. وقد تجلت هذه الإبداعات العديدة في كتبه المطبوعة فيما بعد، وهذه المحاولات المتواصلة منذ أن كان طالباً في بغداد حتى وصل إلى ما وصل إليه، هي التي أعطته الشهرة والمكانة العالية التي نالها وجعلته شاعراً وكاتباً متميزاً له الأستاذية والريادة تحظى كتاباته بالمتابعة والقبول لدى الجمهور الواسع أينما وجدت، وعلى الرغم من المعاناة والمتاعب التي اعترضته في سنوات حياته الأولى ثم المشاغل الكثيرة التي دهمته فيما بعد عند توليه المسؤوليات الرفيعة واضطلاعه بالمهمات الثقيلة لم يتوقف عطاؤه الفكري والأدبي وظل قلمه متقدا سيالا ينهمر بالمزيد من الأفكار والرؤى الفريدة دون أن يحول كثرة ما ينوء بتحمله بينه وبين الإبراع نثرا وشعرا وربما أثرت تلك الهموم والمهمات فنيا في بعض إنجازه الأدبي ولكنها ما منعته قط عن مواصلة سبيل الكتابة مما يؤكد أنها طبع أصيل في ذاته لا يستطيع التخلي عنه مهما ضغطت عليه المسؤوليات أو الهموم.
ويقدم الفلاحي في أول مقالاته في الكتاب، لمحات من سيرة عبدالله الطائي، مشيرا أنه (كان رائدًا بحق في مجالات الكتابة المختلفة، وقد أشاعَ اسم عُمان وردَّد ذكرها في أقطار الوطن العربي يوم كانت عُمان تعيش تحت أسوار العزلة والانغلاق في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين)، مؤكدا أنه لا يعلم كاتبا عمانيا كان له هذا الدور الكبير في التعريف بوطنه وقتها مثل الأستاذ عبدالله الطائي.
وعن سيرة عبدالله الطائي، يكتب الفلاحي قائلا: “ولد عبدالله الطائي في مدينة مسقط لأسرة كريمة اشتهرت بالعلم والفقه والأدب؛ فمنها قُضاة الشرع والشعراء والمشتغلون بالعربية وآدابها وتدريس الفقه والعلوم الأخرى، وقد انحدرت أسرته أول أمرها - كما قيل - من مدينة طيوي التي نسبت لها، ثم انتقلت لتستقر فترة في وادي الطائيين ومنه إلى سمائل، وانطلق جزء منها إلى بوشر ومسقط وجزء آخر إلى نزوى، وكانت أسرة ثائرة للحق داعية للعدل، تأبى السكوت على الظلم والانحراف؛ لذلك تعرض بعض أفرادها للسجن والتضييق والنفي، وكان جده الأكبر الشيخ صالح بن عامر قاضيا وشاعرا، وكذلك والده محمد بن صالح وعمه عيسى بن صالح كانا قاضيين ويجيدان قول الشعر، وقد ولد الطائي سنة 1924م على ما رجحه كاتب سيرته الدكتور محسن الكندي، وإن كنت أرى في اعتماد هذا التاريخ مجالا للنظر والتساؤل؟.
ويضيف الفلاحي: تربَّى عبدالله الطائي في الظلال الوارفة لأسرته الفاضلة المعروفة بالصلاح وبخدمتها للعلم، وتشرَّب بثقافتها الواسعة وفكرها المستنير، فشب منذ نعومة أظافره على حب المعرفة والرغبة في الاطلاع، إضافة للموهبة الذاتية التي فاضت بها نفسه في صباه الأول، وهي موهبة الكتابة وقول الشعر شأنه في ذلك شأن كثيرين من أقرانه، كان الشعر وقتها ثقافتهم المهيمنة وفضاؤهم الممتد؛ حيث تحلق أجنحتهم الصغيرة ابتغاء الوصول نحو أعاليه السامقة الرفيعة وسماواته البعيدة لحوقا بنجومه المضيئة التي يتنافسون على حفظ قصائدها، ويفخرون أمام شيوخهم وأهلهم بالاستشهاد بأبياتها ومقاطعها في مواضع الاستشهاد، ولسان حالهم يعبر عنه العلامة الشيخ عبدالله بن عامر العزري في وصف أيام تلمذته على شيخه الشاعر ابن شيخان؛ حيث يقول:
(لست أنسى لياليا كنت فيها
أتلقى مواهب الأدباء
ولسان الأستاذ تلقي علينا
ما حوى عن أثمة أذكياء
الخليل وسيبويه كذا الكسائي
رفقاء الأستاذ ماض وجائي
وربيع ومسلم وضمام
وسواهم من أبحر العلماء).
ويوثق الأديب أحمد الفلاحي، لعودة الأديب الراحل عبدالله الطائي إلى سلطنة عمان، بعد تولي المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه -، أواخر عام 1970م وفور وصوله مسقط والتقائه السلطان قابوس ورئيس الوزراء حينذاك السيد طارق بن تيمور، “أسندت إليه وزارة الإعلام ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية بالوكالة، وإليه يعود تنظيم الإذاعة العمانية وإعداد هياكلها وترتيب إدارتها مع تأسيس وزارة الإعلام وأقسامها ودوائرها”.
ويشير الفلاحي إلى نشيد (صوت النهضة) الذي كتب كلماته الأديب الراحل عبدالله الطائي، والذي يعد واحدا من إنجازاته، بالإضافة إلى برنامج يومي قدَّمه في الإذاعة كان يُذاع في أمسيات شهر رمضان المبارك عام 1971م، وإرسال مجموعات الشباب للتدريب على ممارسة العمل الإذاعي في الكويت وغيرها يقول الفلاحي في هذا المجال: من الصعب إحصاء كل ما حققه عبدالله الطائي خلال تلك الفترة القصيرة نسبيا، التي كانت فيها عمان الحديثة تتأسس وتبدأ شق طريقها نحو حضارة العصر والتطور، وأذكر من ذلك محاضرته في نادي عمان بمسقط عن علاقات عمان العربية، وقد حضرتها مع عدد كبير غصَّ بهم النادي، وهي مُحاضرة مهمَّة جدا في زمن بدايات النهضة العمانية، ولا يفُوتنا كذلك دوره المؤثر في وفد الصداقة العُماني الذي جاب الأقطار العربية كلها برئاسة الشيخ سعود بن علي الخليلي وزير المعارف آنذاك، مع مجموعة من الشخصيات العمانية العائدة توًّا من مهاجرها، في جولة امتدت لما يقرب من شهرين ابتداءً من ديسمبر 1970م للتعريف بعُمان والتواصل مع الأشقاء العرب سعيًا للانضمام إلى جامعة الدول العربية، وبحكم خبراته الواسعة وصداقاته وروابطه القوية مع المسؤولين في الدول العربية تيسر للوفد إنجاز مهمته بصورة أسرع وأسهل.
ولم يتسنَّ للأستاذ الطائي الاستمرار في المنصب الوزاري طويلا؛ حيث خرج من الوزارة بعد إعادة تشكيل مجلس الوزراء عام 1972م ليُعيَّن مندوبا للسلطنة في الأمم المتحدة، لكنه اعتذر عن قبول التعيين، وعاد إلى أسرته التي كانت لا تزال مُقيمة في أبو ظبي متفرغا لإعداد كتبه وترتيبها، ولتلبية دعوة كان سبق أن تلقاها من القاهرة لإلقاء سلسلة محضرات عن أدب الخليج العربي في معهد البحوث التابع للجامعة العربية بالقاهرة كأستاذ زائر وقد أصدر المعهد تلك المحاضرات فيما بعد في كتاب ظهر مطبوعا تحت اسم (الأدب المعاصر في الخليج العربي)، طبعته جامعة الدول العربية تكريمًا له بُعيد رحيله بوقت قصير، وفي غمرة اشتغالاته الفكرية والثقافية داهمه الموت فجأة وهو في بداية الخمسينيات من أعوام عمره لم يكد ينهي مرحلة الشاب وكان لحظتها في قمة نشاطه وعطائه، لتذهب روحه الطامحة المتجددة محلقة في الأعالي نحو بارئها الكريم الرحيم في 18 يوليو 1973م.
وقد ترك الطائي وراءه الذكر الحسن والثناء الجميل، كما ترك مؤلفاته العديدة التي صدرت بعد وفاته ولم يسعفه الفراغ في حياته الممتلئة سوى بطباعة كتابين فقط من كتبه؛ هما ديوانه الشعري (الفجر الزاحف) وروايته (ملائكة الجبل الأخضر)، وقد قام أبناؤه الأوفياء بإصدار كتبه الأخرى متوالية ليتسنى لقراء العربية الإطلاع على فكره وإنتاجه الزاخر المتعدد الأشكال والمضامين، ومعظم إنتاج الطائي الأدبي يحمل الهم الوطني وحب عمان والتغني بأمجادها والدعوة لتطورها وبنائها أرضا وإنسانا، إضافة للبُعد القومي وأحوال الوطن العربي في إنجازاته وانحساراته وثوراته وطموحاته.
كتاب (مع عبدالله الطائي) يعد إضافة هامة للمكتبة العمانية، ومرجعا موجزا عن شخصية الأديب الراحل عبدالله بن محمد الطائي، وهو يقع 114 صفحة، وفي الغلاف الأخير وضع الفلاحي قصيدة (على مراحل الطريق)، وهي أنموذجا لشعر الطائي، المسكون يومذاك بهموم قومه ومعضلات وطنه، ومعها اشتياقه الشديد إلى الوطن، وفي مطلع هذه القصيدة يقول الطائي:
يا دهر هل أبقيت سهما لم يصب
قلــبا لكــثرة مـا رميـت تفطرا
أذويــت زهـو شبيـبتي فـي بـــدئه
وحـكمت أن أحيا معاشا أبترا
جــاوزت حــد الأربعيـن ولم يـزل
عيـش التشرد لي نصيبا قدرا
أعمــان قـد جمع الزمان صروفه
لكــنـنا فــي الحــب لـن نتغــيرا
أنــت المــــرام لــــمن أراد معـــــزة
أنـت المـقام فعـنك لن نتخيرا.