في الجلسة التي خصصت لقراءة كتاب “إضاءات على إسهامات العُمانيين الاجتماعية والعلمية والفكرية”، مساء الأربعاء الأول من يونيو 2022م، قدم الحضور عددا من المداخلات الجميلة التي أثرت الحوار وأغنت الأمسية بآراء وأفكار ثمينة ومهمة..

مكتبة قراء المعرفة، في قرية غلا السياحية الجميلة، تأسست دعاماتها ونمت أعداد كتبها شيئا فشيئا، لتضم إنتاج الكتاب العُمانيين من الأدب والثقافة والفكر والعقيدة والفلك والسير والتاريخ ومختلف فنون ومجالات المعرفة، ولم يقف طموحها عند هذه الحدود، فالطموحات واسعة وللمشروع الثقافي غايات وأهداف أشمل وأكبر من مجرد مكتبة، لذا فقد ألحقت بعد فترة وجيزة بصالون ثقافي أطلق عليه صالون مكتبة “قراء المعرفة”، ينظم أمسيات تقدم قراءات متخصصة في الكتاب العُماني، والشأن الثقافي بشكل عام. وعلى المستوى الشخصي، ومن بين عشرات الأمسيات المسجلة والموثقة في “اليوتيوب” ـ التي استقطبت مفكرين وكتابا ومثقفين وعشاقا للمعرفة ـ فقد شاركت في ثلاث منها، في الأولى، قدمت قراءة في كتاب “كائن، فهم أفضل لضخامة التعقيد”، للأستاذ “يحيى عبيد إبراهيم الزعابي”، على ضوء مقال نشرته “الوطن” تناول هذا الكتاب. وعرضت الثانية لـ”قراءة تاريخية ونقدية من خلال تجربتي في مجلس الشورى” آخذا في الاعتبار ما احتواه كتابي “صفحات من الشورى ـ ذكريات ثلاثة عقود”. أما الجلسة الثالثة فقدم فيها الصديق سعيد الكندي، الكاتب المعروف، ورقة تناولت قراءة تفصيلية عن كتابي “إضاءات على إسهامات العُمانيين الاجتماعية والعلمية والفكرية”، والأستاذ سعيد الكندي من المثقفين البارزين، الذين نشروا العديد من المقالات النقدية والأدبية في الصحف العُمانية، ومنها “الوطن”، وهو قارئ نهم لكل أنواع الكتب وتخصصاتها، ويمتلك القدرة على تقديم الرأي في مختلف المجالات.. في الجلسة التي خصصت لقراءة كتاب “إضاءات على إسهامات العُمانيين الاجتماعية والعلمية والفكرية”، مساء الأربعاء الأول من يونيو 2022م، قدم الحضور عددا من المداخلات الجميلة التي أثرت الحوار وأغنت الأمسية بآراء وأفكار ثمينة ومهمة حول عناوين الكتاب ومحتواه، ومضمون الورقة الملقاة ـ التي نشرتها جريدة “الوطن”، مشكورة، في أحد أعدادها. خرج محتوى هذا الكتاب ـ كما شرحت في تعقيبي على المداخلات ـ من رحم القرية العُمانية عامة، وأفكاره وعناوينه من واقع تأملاتي وقراءاتي وتطوافي بين حارات وبساتين وأزقة قريتي “المضيرب”، وفي أحضان سوقها القديم وفضاء ساحته الواسعة، فاللمسات الجمالية وأناقة المباني واللوحات الفنية الأسرة والتصميم المعماري في براعته وتفاصيله الذي خطط مهندسوه بدقة ليكون موقع كل نافذة وشرفة ومدخل وغرفة ومرفق ومبنى وساقية وزقاق وبستان في موقعها المناسب بما يحقق راحة وصحة الإنسان والاستفادة من الهواء العليل واتقاء البرد الشديد وخدمة القرية وأهلها بشكل عام وجودة العمل وضمان بلوغه لمقاصده وغاياته، والبساتين الممتدة عبر مساحات لا يصل البصر إلى أعماقها فضلا عن أطرافها... جميعها تلفت النظر وتشد الانتباه وتحفز على التفكير وطرح الأسئلة، فتستعيد الذاكرة طرفا من الحياة القديمة، ماضي القرية وازدهار معيشتها، عندما كان المجتمع يخدم نفسه ويبني حياته ويحقق أهدافه، وكل مرفق في القرية يقوم بمهامه ويجيد تنفيذ أدواره، السبلة ـ المسجد ـ المدرسة ـ السوق ـ الفلج ـ الوقف لخدمة وصيانة هذه المرافق وتمويل احتياجات ومكافآت المعلمين والأئمة وطلبة العلم... وكان جميع من في القرية يعيش نظاما مجتمعيا متكاملا يدير نفسه بنفسه دون اعتماد على حكومة أو مؤسسة رسمية أو عمال ومساعدين وخبراء ومستشارين أجانب... كان هذا ردي على التساؤلات التي طرحت في الجلسة عن فكرة الكتاب ومحاوره وغاياته، المتمثلة في الاستفادة من الإرث والتراث والثقافة وأسلوب ونمط الحياة في السابق وإعادة دور بعض المرافق، مثالا، للسبلة بما يتوافق مع التحوُّلات والتطورات التي يشهدها العصر، واللمسات الجمالية والذوق المعماري الجذاب والمريح في بناء المدن والقرى... التي تحولت إلى غابات إسمنتية وشوارع إسفلتية وبيوت معزولة عن بعضها ومنازل مغلقة في وجه الضيف والجار، تلفها الكآبة لخلوها من المظاهر واللوحات الجمالية والساحات التي يجتمع فيها الناس ويقيمون أنشطتهم وينظمون فعالياتهم الثقافية وفنونهم الشعبية، ومن الحدائق التي كانت البساتين في القرية والمدينة تقوم مقامها، ومن المجالس “السبلة” التي يلتقي فيها أهل الحارة يناقشون مشاكلهم وقضاياهم ويعبرون عن همومهم ويرفهون عن أنفسهم... لذلك تظل الاستفادة من الحياة القديمة مهمة لإضفاء الراحة والبهجة على حياة اليوم، والحفاظ على ثقافة المجتمع وإرثه وحضارته ...هل هو “الحنين الإيجابي إلى الماضي”، كما أشارت إليه ووصفته إحدى مداخلات الأمسية؟ نعم هو كذلك، لأنه ماضي كان فيه العُماني هو المخطط والمربي والمهندس والراسم لمجرى حياته، المزارع والصياد والحرفي والمصمم العمراني والبناء والمعلم... هو من يدير نفسه بنفسه ويعالج مشكلاته ويوفر الفرص والموارد لتوفير متطلبات معيشته وتحقيق رخائه... هل يمكن الاستفادة من حياة القرية في الماضي ومنهج وآليات وتقاليد عملها المتكامل في عصر الحداثة والطفرة العلمية والتحوُّلات الثقافية والفكرية التي شهدها العصر؟ ولِمَ لا؟ وما الذي يمنع من ذلك؟ ألا تمارس الديوانية عملها وتؤدي رسالتها الاجتماعية والثقافية وتستقطب الناس من مشارب ومستويات وأعمار متعددة، في دول الخليج وعدد من البلدان العربية؟ هل تخلت الأمم والشعوب عن ثقافتها وقراها ونمط وأسلوب حياتها السابق، عن حاراتها ومدنها القديمة، أراضيها الزراعية وأشجارها ومواردها وإرثها الحضاري... ألم نرَ ونشاهد في أسفارنا وتطوافنا المستمر من حول العالم، المدينة القديمة، والأخرى الحديثة أو الجديدة يكملان بعضهما بعضا ويقومان بدورهما الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياحي، وأنشئت العصرية على الأسلوب والنمط المعماري القديم للحفاظ على الخصوصية والثقافة والمحتوى الذي يرمز لتاريخ وحضارة المجتمع؟ واستمرارها ـ أي تلك الشعوب ـ في زراعة أراضيها وممارسة الصيد وإنتاج الصناعات الحرفية وإدارة أسواقها ومرافق قراها العامة، والمشاركة شبه الكاملة في الحياة؟ فلماذا سلمنا نحن، كل ما ينتمي إلى حياتنا القديمة والجديدة إلى الأجنبي؟ في إحدى مداخلاتي على التساؤلات والملاحظات المطروحة عبرت عن تفاؤلي الكبير بالشباب العُماني الذي أصبح أكثر وعيا وإدراكا للمسؤولية وفهما لقيمة القرية وحاراتها وبساتينها ونخيلها وأفلاجها وأسواقها القديمة، للحس المتنامي بأهمية استثمار هذا الإرث القديم الذي تركه الآباء ـ ومن الوفاء لهم والشعور الوطني العميق ـ صيانته والحفاظ والإضافة عليه.. والاستفادة منه بما يتناسب ويتوافق مع تطورات واحتياجات وتحوُّلات العصر وتطلعات وطموحات الشباب، وهذا ما حدث ويحدث الآن في ولايات نزوى والحمراء وبهلاء ومنح وولايات وقرى أخرى عديدة ـ وهو ما تناولته في مقالات سابقة نشرتها “الوطن”. وفي الإطار ذاته عرضت لهم في مثال آخر، عن موقف معبر ومؤكد على هذه الحقيقة، فقبل سنتين، رفع العمال من “دول شبه القارة الهندية” ـ الذين سيطروا لعقود على الإشراف والعمل في بساتين النخيل والحمضيات والأراضي الزراعية واستثمار إنتاجها الوفير لتعظيم مداخيلهم ـ أجرتهم اليومية في “الجداد” وخصوصا حصاد نخلة “المبسلي” وطبخه وتجفيفه وتكييسه... من عشرة ريالات إلى خمسة عشر ريالا عُمانيا، فبادر عدد من الناشطين في قرية “المضيرب” بولاية القابل، إلى جمع الشباب العُمانيين هناك، وعرض عليهم فرصة تحسين دخولهم، أو الحصول على عمل لفترة محددة عن طريق المشاركة في حصاد التمور بأنواعها، وبينوا لهم محاسن هذه المبادرة بالاعتماد على العُماني والاستغناء عن غيره الذي فرض شروطه، فبادر الشباب للتسجيل والقيام بكافة أعمال الحصاد، ونجحت المبادرة نجاحا باهرا، واستنسخت التجربة في ولايات أخرى، وها هي تواصل أداءها للسنة الثالثة على التوالي. فالمبادرة والإرادة والعرض الجيد للفكرة والإيمان بما نملكه من موارد وإمكانات... جميعها محفزات للنجاح ودوافع مهمة لاستعادة ما فقدناه من ثروات وقِيَم وإرث وثقافة تحتشد بالثراء. يتطلع المجتمع اليوم، بعد إصدار مرسوم نظام المحافظات ورفع صلاحياتها وتمتعها بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري... بأن تستعيد القرية دورها الإنتاجي، الزراعي والسمكي والحرفي والسياحي... وأن يمكن المجتمع الأهلي من خدمة نفسه بنهج تشاركي، وتعزيز دوره وبناه الاجتماعية في مختلف الأعمال، بتنفيذ المشاريع واستثمار الإمكانات والثروات الطبيعية الموجودة، التي من شأنها توفير فرص عمل وتعزز الموارد وتسهم في نشاط الأسواق وتعميق التفاعل بين المجتمع ومؤسسات الدولة، والاستفادة من الإرث والثقافة وأساليب الحياة وآليات العمل المتجذرة، في كل ما من شأنه تحقيق المنافع والمصالح العامة.

سعود بن علي الحارثي
[email protected]