أما في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، فإن تدعي كونك «رأسمالي» إنما هو مدعاة للتفاخر والتبختر، بينما يُعد الشخص الذي يدعي بأنه «اشتراكي» شاذًّا أو منبوذًا، بل وكأنه يبدو خائنًا وميالًا للمعسكر الشيوعي!

منذ مدة طويلة وأنا ألاحظ كيف تحور الثقافات والأيديولوجيات دلالات الألفاظ، درجة تضييع المتابع وإرباكه (إن كان مبتدئًا وقليل الخبرة). لذا، قررت أن أخصَّ قرَّاء (الوطن) من النشء والشبيبة الواعدة بفكرة عن هذا الإرباك الذي ينطوي على شيء من التلاعب.
ليست الفكرة معقدة، كما قد تبدو على السطح؛ لأن بواعث مناقشتها تكمن على التنوع الفكري والأيديولوجي أعلاه. وقد لاحظت هذا “التناشز” في الفكرة أو العقيدة القومية (بمعنى اعتزاز فرد ما أو تيار سياسي ما بالقوم الذين ينتمي إليهم. في الدول العربية، على سبيل المثال، أن تظهر على الشاشة الفضية وتقول بصوت عالٍ بأنك إنسان “قومي”، يكون الإعلان مقبولًا، بل ومحبذًا في أحيان كثيرة. ولكن عندما يقول الرئيس الأوكراني بأنه “قومي” وبأنه يرنو “لتحرير” الأوكرانيين من الهيمنة الروسية، تترك اللفظة أثرًا سلبيًّا في دواخل المستمعين، خصوصًا بعدما أخذت الدعاية الروسية اللفظ “قومي”، بمعنى، “شوفيني” بل وطورت دلالاته درجة وصم الرئيس الأوكراني بـ”النازية”، مستحضرين مآسي الرايخ الثالث والاعتداد “الجرماني” بما يسمى بـ”الروح القومي”، ذلك الروح الذي تسبب بحربين عالميتين، الأولى والثانية. إذًا، لدينا عبر العالم العربي غالبًا ما يكون الاعتزاز بالقوم مدعاة للاعتزاز ودافعًا للإعلان وربما للتباهي، وهي حال من بقايا الاعتزاز والتفاخر بالعشيرة والقبيلة، إذ تحور هذا الاعتزاز، من العصر الجاهلي، حتى يومنا هذا، وعبر عصر صدر الإسلام، كي يظهر من جديد في الحركات القومية العربية المعاصرة بعد أن تتبعث جذورها إلى مناوأة الكولونياليات والحركة الصهيونية، وما تنطوي عليه من دلالات “عبرية” التمركز.
ولا تختلف الدلالات المتناقضة مع لفظ من نوع “رأسمالي” و”اشتراكي”، فقد صار الأول سبة في العديد من الدول العربية التي شاء البعض دمغها بصفة “التقدمية” أو “الرجوعية” أحيانًا. أما في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، فإن تدعي كونك “رأسمالي” إنما هو مدعاة للتفاخر والتبختر، بينما يُعد الشخص الذي يدعي بأنه “اشتراكي” شاذًّا أو منبوذًا، بل وكأنه يبدو خائنًا وميالًا للمعسكر الشيوعي! بل إن لفظ “يميني” في دول شيوعية يكفي بحد ذاته لأن يضع المرء في السجن، بمعنى أنه يقاوم السياسات اليسارية، “التقدمية”!
بعد ثورة 14 تموز ـ يوليو عام 1958 كانت كان لفظ “إقطاعي” تهمة مخلة بالشرف وبالأخلاق؛ لأنها تنطوي على مقاومة “منجزات” الثورة “التقدمية” في الإصلاح الزراعي، على سبيل القضاء على استغلال الإقطاع، أما في الدول ذات السوق المفتوح فإن وصف المرء بأنه “إقطاعي” قد لا يزعجه نظرًا؛ لأنه يعني بأنه “ملاَّك” أراضٍ وأطيان زراعية واسعة ومنتجة!
أما أكثر الألفاظ إثارة لملاحظتي في الإرباك المتأتي من البون بالمعنى، فهو لفظ “محافظ”. في العالم العربي، يمكن أن ينطوي هذا اللفظ على معنى من نوع “رجعي” أو مقاوم للتقدم. أما في عالم السياسة الأميركية، فإنك تجد أن جميع المرشحين للانتخابات على تفاوت مستوياتها يتباهون بأنهم “محافظون”، بمعنى أفراد يقاومون الطارئ والوافد الغريب على أُسس الحياة الرأسمالية الأميركية الأصل. أما في بريطانيا، فينطوي اللفظ على انتماء سياسي للحزب المحافظ، مضادًّا لحزب العمال، وهكذا تتقلب الدلالات من بقعة على الأرض إلى أخرى، مطورة، بمجموعها الحاجة إلى “جغرافيا الدلالات”!

أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي