- لا سلطان له على مضمون النص

مسقط ـ العُمانية: أصبحت مسألة نقل الحقائق للآخر نسبية في أحيان كثيرة، فهي تعتمد على توجه الناقل وماهية أفكاره مرورًا بمعتقداته وواقعه الفكري والثقافي والاجتماعي، وهذا الأمر ينطبق على تأثير المترجِم على النص المُترجَم، فذلك التأثير أمر لا بد منه دون التدخل المباشر لتحريف الفكرة الرئيسة للنص المراد نقله بلغة غير اللغة الأم، لأن هذا الأمر بالغ في الحساسية ومهمٌّ جدًّا لدى المتلقي. وثمَّة آراء تتفق في طرحها حول تدخُّل المترجم في تغيير الصورة الحقيقية للنص المُترجم ونقلها للآخر وفق معتقداته، والظروف التي من الممكن أن تبيح للمترجم أدلجة ذلك النص وفق معتقداته وأفكاره وما يُمليه عليه وعاؤه الثقافي والفكري.

في هذا الإطار يقول الدكتور اللبناني شوقي الريس رئيس قسم الترجمة الفورية في الاتحاد البرلماني الدولي: في كتابه المرجعي الشهير (فلسفة اللغة) ينقل كمال الحاج عن المفكر والروائي الفرنسي أندريه جيد قوله الترجمةُ فِعلُ مرجلةٍ وتحدٍّ لا يجب أن تُترك إلى أقزام الدواة، وهذا القول يلخِّص بمقدار كبير موقفي من الترجمة التي كرَّست جلَّ نشاطي للجانب الفوري/‏الشفوي منها، نائيًا قدر المستطاع عن شقِّها التحريري الذي لي ملاحظاتٌ قاسية جدًّا على معظم الذين يتصدَّون له، رغم إدراكي التام للظروف والصعاب المحيطة به في عالمنا العربي”.
ويضيف الريس: (الصورة الحقيقية) للنص المترجَم هي جوهر المعنى الذي يحمله، وبالتالي لا يحقُّ للمترجم مهما بلغ شأنه أن ينتهك هذه (الصورة) بأي ذريعة أو أي مبرِّر، فالمترجِم لا سلطان له على مضمون النصِّ الذي يفترض به أن يصونه بأقصى درجات الأمانة، وبما أوتي من إحاطة باللغة الأصل ومنحنياتها وأبعادها الثقافية والتاريخية، أما الشكل فهو الملعب الفسيح أمام المترجم ومداه المطلق، يجول فيه بحرية شبه مطلقة له أن يرتكب ما شاء واقتدر من أفعال، شريطة أن لا تعلو هذه الأفعال على حدود جمالية النص الأصلي أو تنال من رصانته أو تنتقص من وضوحه.
أما المترجم العُماني يعقوب المفرجي فيضيف في هذا السياق قائلًا: (من وجهة نظر نقدية على المترجِم أن يتوخَّى الأمانة في نقل النص كما هو في أصله، ومتى ما تعدّى المترجم على هذه القاعدة فقد تعدّى على تعريف الترجمة ذاتها؛ ومِن نُقّاد الترجمة من لا يعتدُّ أساسًا بالنصوص التي تنقل من لغة إلى أخرى لأهداف مباينة لما وُضع له الأصل، بل يقولون هذه ليست ترجمات وإنما يسمُّونها اقتباسات أو ملخصات أو غير ذلك من التعديلات).
ويشير: (من وجهة نظر أخلاقيات مهنة الترجمة فالمترجم مُستأمن على رسالة النص الأصل، ومتى ما اضطُرّ للنَدّ عنها وجب عليه بيان ذلك في موضعه حتى لا يُقوِّل مؤلف الأصل ما لم يقله ـ من جهة ـ وحتى لا يوهم قارئ الترجمة بما ليس في النص الأصل ـ من جهة أخرى ـ فيبنيَ أحكامًا مغلوطة ويخرج باستنتاجات مشوّهة، ولذلك على المترجم أن يتحمَّل مسؤولية قراراته الترجمية وأن يكون مستعدًّا لتبرير كل حيثيات ترجمته، وعمومًا لو أعطينا نصًّا لمترجمَين اثنين لاستحال تطابق ترجمتيهما تطابقًا تامًّا، لكن يتسنَّى لنا اعتبارهما كلتيهما ترجمتَين ما دام كلٌّ منهما ملتزم بشرط الأمانة والدقة).
أما المترجم الهندي رضوان أحمد الأستاذ المشارك في اللغويات بجامعة قطر فيشير في هذا الجانب: (لا نستطيع أن ننكر حضور المترجم وبصمته الثقافية والفكرية في جميع أعماله التي يقوم بترجمتها، وفي غالب الأحيان، هذا الحضور لا يشكل أثرًا كبيرًا على النص الذي قام بترجمته، وفي أحيان أخرى يتجاوز هذا الحضور المسموح به).
ويُضيف رضوان: (هناك درجات أخرى في عوالم الترجمة والتي لا يمكن للمترجم التدخل فيها أو أدلجة حقيقتها، فاليوم ولأن اللغة العربية عميقة جدًّا ولكل كلمة معانٍ كثيرة وقد تأتي عكس ما يتصور المترجم، فعليه أن يختار عبارات تتوافق مع السياق المراد إيصاله للمتلقي كي يفرِّق هو الآخر بين ما تذهب إليه تلك العبارات، ولا يكون في لَبْس أو يغم عليه معنى دون غيره).
في نهاية هذا الطرح لا تبتعد المترجمة العُمانية فاطمة العجمية فيما ورد من وجهات النظر وتقول: (يعتمدُ ذلك على عدَّة عوامل وظروف مُختلفة؛ فقد يكون هذا التغيير واضحًا يظهرُ في أجزاءٍ كبيرةٍ في النصِّ المُترجَم، ومقصودًا يُضمّن فيه المترجم مُعتقداتهِ وأفكاره لتمريرها للثقافةِ الأخرى لأغراضٍ مختلفة نابعةٍ من انتمائهِ أو تحيّزهِ لهويةٍ معيَّنة، دينية كانت أم سياسية أم وطنية أم مجتمعية أم ثقافية أم غيرها، وهذا ما أعدُّه تشويهًا لجوهر الترجمة، بل وخيانةً لنصِّها الأصل، أو أن يكون تغييرًا ضمنيًّا في عددٍ قليلٍ من المفردات أو التراكيب اللغوية بشكلٍ تلقائي أو غير تلقائي، تدخلُ فيه “ذاتُ المُترجم” وهو ما تُحدِّده جوانب عدَّة مرتبطة بالهدفِ من الترجمةِ وجمهورها المستهدف والخلفيةِ اللغوية والثقافيةِ والشخصيةِ للمترجم والظروف المحيطةِ بها).
وتُبيِّن: في الترجمةِ الأدبية على سبيل المثال توجد استراتيجيتان أساسيّتان يلجأُ المترجم لاتباعِ إحداهما، استراتيجيةً عامَّة والأخرى ثانويةً للنص الذي يُترجمه، وهما (التغريب) و(التوطين)، إذ يُمكن أن يميل المترجم إلى الاحتفاظ بالجوانب الثقافية للنص الأصل، ونقلها كما هي في النص الهدف، وهو بذلكَ يُبقي النص (غريبًا) في عمومهِ على الثقافةِ الهدف، غير أنَّه حقيقيٌّ لم تتغير صورته في هذه الحالة، أو أن (يوطّن) بعض تلك العناصر لتُناسبَ الجمهور المُستهدف وتتفق والغرضَ من الترجمة، ويتفاوتُ هنا حجم التغيير وأسلوبهِ، بحيث يجب أن لا يؤثرَ ذلك على روحِ النصِّ ولا يُخلُّ بمعانيه، وفي جميع الأحوال ينبغي أن يعتمدَ كلُّ تغييرٍ فيه على مسوّغٍ واضح وأساسٍ مُقنع.
وتختتم قائلة: يمكن للـ(أدلجة) أن تظهر بصورةٍ أكثر جلاءً عند ترجمة النصوص الإعلامية، لما يتَّسمُ به هذا النوع من النصوص من تباينٍ وجدليةٍ في التوجهات والأفكار والآراء؛ إذ يعتمدُ فيه المترجم على توجُّه المؤسسة التي يعمل بها وأيديولوجيّتها، مما يقوده في بعض الأحيان إلى تغييرِ بعض المقابلات اللغوية لتتسق مع توجه تلك المؤسسة، فإضافة مفرداتٍ بسيطةٍ جدًّا في ظاهرها كـ(طالما، ودائمًا، وغالبًا)، على سبيل المثال، قد تُضيفُ تأثيرًا عميقًا يُمكن أن يُغيّر مسار الترجمةِ وتوجُّهها، ناهيكَ عن بعض التراكيب والمفردات التي تختلفُ باختلافِ الخلفيات السياسية والأيديولوجية للمترجم أو لموقعه العملي.