من المتوقَّع أن تستمرَّ الأوضاع في التدهور بين روسيا ومجموع دول الاتحاد الأوروبي إلى حدودٍ معينة، وأن تتراجع صادرات الطاقة الروسية إلى بلدانه باطِّراد غير مُتسارع ومؤقت. فلن يستمر الأمر طويلًا..
يتلخص الصراع الدائر في أكثر من بقعة ومكان على سطح المعمورة، وفي جوانب مهمة منه؛ باعتباره صراعًا على الطاقة بأشكالها المختلفة: الغاز المُسيّل، والطاقة الأحفورية السائلة، والفحم الحجري. وإن تغذت تلك الصراعات بعوامل إضافية اقتصادية، وتجارية، واستثمارية بحتة تمامًا، لها مكانها الاستراتيجي في اقتصادات الدول، وخصوصًا الدول الكبرى منها. لذلك لم تبتعد الحرب الأوكرانية ـ الروسية في واحدة من مُسبباتها عن مسائل الطاقة وتحديدًا الغاز الروسي، والتي حركتها الولايات المتحدة في سياق صراعها مع موسكو على الساحة الأوروبية، ولتوجيه الأذى لها في ظل الصراع الأميركي المُحتدم على مستوى الخريطة الجيوستراتيجية في العالم بأسره، حيث تريد واشنطن تأكيد نفسها باعتبارها القطب الوحيد في العالم، نفيًا لخريطة وأوزان دولية مُتعددة الأقطاب، أو العودة لحربٍ “باردة جديدة” تكون الساحة الأوروبية “حجر الرحى” فيها. وهو ما بدأ يدفع أكثر من حكومة أوروبية الآن وفي هذه الفترات لمحاولة الخروج من معادلة الصراع الروسي الأوكراني الذي تدفع أثمانه دول الاتحاد الأوروبي بتحريضٍ أميركي. وتكون واشنطن قد حققت هدفًا آخر بدمج حلف شمال الأطلسي مع حلف فرصوفيا ـ وارسو ـ السابق والمنقرض، وأعادت ولادة القطبية الواحدة التي نشأت لفترة عدة سنوات فقط، مع تفكك الاتحاد السوفييتي السابق وانهيار حلف فرصوفيا عام 1991. وهو ما دفع بعض السياسيين والمراقبين الأوروبيين بإثارة مناخ ناقد لسياسة واشنطن بشأن الموضوع الأوكراني والتدخل في قضايا القارة الأوروبية، بالقول: “لن نتحمَّل مسؤولية خوض حرب ضدَّ روسيا. والتعاطف الشكلي مع أوكرانيا لا يحجب علامات التعب التي بدأت تتجلَّى في أوساط الرأي العام الأوروبي”.
إذًا، إن مثالنا الحي والطازج، عن كل تلك الاعتمالات، ما يجري حاليًّا على الجبهة الأوروبية، حيث تختلف مستويات التبعية لروسيا في ميدان الطاقة ارتباطًا بمنتَجاتها. التبعية (وفق سياسات المصالح النفطية) كبيرة جدًّا، وبشكلٍ صارخ، ومنذ سنواتٍ طويلة في ميدان الغاز الطبيعي والنفط، الذي مثَّلت وارداته من روسيا (وكما تُشير المعطيات المنشورة) في الفترة الممتدَّة بين عامي 2017 و2019، نسبة 56,9% من مجمل واردات الطاقة إلى دول الاتحاد الأوروبي كما تُشير معظم المُعطيات الصادرة والمنشورة، لكنها ضعيفة في مجال الغاز المسيل (7,2%)، ومتوسطة في مجال النفط (30,3%)، والباقي من النسب تعود للفحم المستورد من أكثر من مكان من أستراليا، على سبيل المثال. والمنتج محليًّا من مكامنه في بعض دول الاتحاد الأوروبي كألمانيا.
ووفقًا للمفوضية الأوروبية. وبالنسبة إلى الغاز الطبيعي، يأتي الغاز المُسيّل، الذي وصلت قيمة وارداته بين عامي 2017 و2019 إلى 11,3 مليار يورو، بينما كانت قيمة الغاز الروسي المستورَد عبر الأنابيب في الفترة نفسها 26,4 مليار يورو. وبما أن ثمن المتر المكعَّب من الغاز المُسيّل أغلى بحوالي 30% من غاز الأنابيب، فإن الاتحاد الأوروبي يكون قد استورد عبر الأنابيب في الفترة المُشار إليها ثلاثة أضعاف كمِّية الغاز المُسيّل التي اشتراها من جمهورية روسيا الاتحادية عبر خط سيل الشمال، وحتى خط سيل الجنوب.
والمطروح أوروبيًّا ومن قبل البعض الآن، وبتحريضٍ أميركي بشأن البحث عن بدائل للغاز الروسي، استيراد الغاز المُسال من مختلف الدول المنتِجة له مثل الجزائر وليبيا ونيجيريا وحتى فنزويلا...إلخ، كما في الاعتماد الجزئي على الطاقة النووية في بعض القطاعات. وهو ما يُفسر لنا الزيارات السرية وشبه السرية لوفودٍ رسمية معنية من إسبانيا إلى الجزائر، بقصد اتخاذ خطوات احتياطية خشية تقليل موسكو من عملية توريد الغاز المُسيّل إلى إسبانيا، ومحاولة الربط مع الجزائر بزيادة توريد الغاز إلى إسبانيا منها، ولكن العقبة الرئيسية تكمن في عملية النقل وتعقيداتها، وبالتالي الكلفة المضاعفة التي ستدفعها عندئذ دول الاتحاد الأوروبي. فسعر المتر المكعَّب من الغاز المسال ستصبح أكثر ارتفاعًا بنسبة تُراوح ما بين 30 و50% من سعر غاز الأنابيب. وبالتالي ستكون هناك خسارة مالية كبيرة جدًّا سَتُدفع من “كيس ومال” دول الاتحاد الأوروبي؛ إرضاءً لسياسات واشنطن وهي تذكي نار الصراع الأوروبي مع موسكو عبر عنوانين: الطاقة وأوكرانيا.
أما في ميدان النفط الأحفوري المُستخرج من مكامنه، فينقسم إلى نفط خام ثقيل، ونفط خام خفيف. الأول مهمٌّ بالنسبة إلى الصناعات البتروكيماوية ومشتقاتها المختلفة، وخصوصًا بالنسبة لدولة كألمانيا. والثاني يُستخدم لإنتاج المحروقات الضرورية. والدول القادرة على زيادة إنتاجها، أي بلدان الخليج وايران وفنزويلا... تُنتج بشكلٍ رئيسي نفطًا ثقيلًا، بمعظمه.
أخيرًا، من المتوقَّع أن تستمرَّ الأوضاع في التدهور بين روسيا ومجموع دول الاتحاد الأوروبي إلى حدودٍ معينة، وأن تتراجع صادرات الطاقة الروسية إلى بلدانه باطِّراد غير مُتسارع ومؤقت. فلن يستمر الأمر طويلًا؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي لن تقبل أن تكون في نهاية الأمر ضحية صراع واشنطن مع موسكو، ومحاولة الولايات المتحدة توجيه الأذى لروسيا عبر “السكاكين الأوروبية”. وبالتالي فالوضع سيكون على المديات القريبة غير قابلًا للاحتمال كما تريد واشنطن من أوروبا، حيث تبحث دول الاتحاد الأوروبي عن مصالحها أيضًا في نهاية المطاف، ولن تكون أسيرة لمواقف واشنطن، وإن تذيَّلت لها بعض الدول الأوروبية (دولتان أو ثلاث دول على أكثر تقدير).

علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك
[email protected]