.. وكان هناك عامرُ بنُ فهيرة الذي كان يعمل راعيًا لأغنام أبي بكر قد حُدِدَتْ له مهمة واضحة، وهي: أن يمشي بأغنامه، لترعى، وليزيلَ أثر أقدام الابن عبد الرحمن بن أبي بكر لمعرفة العرب بفنِ قَصِّ الأثر، أو العيافة، فكانت مُهمة (عامر بن فهيرة) مهمة خطيرة، إذ نِيطَ به أن يرعى هذه الغنمَ التي هي لأبي بكر، فكان يرعى بها في طريق سير الرسول، وصحبه، وابن أبي بكر:(عبد الرحمن) حتى يعفوَ، أو يزيل أثر أقدامهم هذه، حتى لا يتتبعوا الرسولَ، وصاحبه، فيصلوا إليهما، فهم خبراء ـ كما قلت ـ في هذا المجال، ورغم كل ذلك التخطيط النبوي إلا أن تتبُّعَ آثار الأقدام، أوصلهم بالفعل إلى الغار، وأوقفهم أمامه، لكن الرسول اجتهد، وأعمل عقله وفكره في هذه الحرب الشرسة التي خُطِّط لها لكي تنال من شخصه الشريف، وشخْص صاحبه الأمين أبي بكر، لكن عامر بن فهيرة قام بمهمته خير قيام، وكان للأغنام ـ وهي تمثل شريحة الحيوان ـ دور في إنجاح الهجرة، كما كان لناقتَيْ الرسول، وأبي بكر دورٌ كذلك في سير مراحل الهجرة سيرَها الهادئ الناجح القويم، فكلُّ العوالم ـ في رأيي ـ كانت قد اشتركت وأسهمت في نجاح الهجرة، وكان له دورٌ كبير في وصولها إلى بر الأمان.
وكانت المرحلة الثانية قد دُرِسَتْ جيدا، وفيها وُضِعَتْ مهمةٌ لرجل مشرك، لا يشك أحد في أنه غير ذلك، ولا أنه من المسلمين، لكنه رجل أمين، وماهر بطرق الصحراء، ومداخلها ومخارجها، وهضابها وتلالها، ومسالكها كلها، وهو (عبد الله بن أريقط)، فجاء بالناقتين بعد انتهاء بحْث قريش عن الرسول، وصاحبه وبدأت الرحلة الثانية تترسم طريقها، وسلمت من أعدائها، واتخذ الرجل، ومعه الرسول الكريم، وصاحبه طريقًا مخالفةً للسالكين، وهي طريق ملتفة حتى لا يقع في براثن الباحثين، ومَنْ يريدون أن يفوزوا ـ كما حدثنا سراقة ـ رضي الله عنه ـ بجائزة قريش ـ وهي مائة ناقة لمن يأتي بالرسول:(حيًّا، أو ميتًا)، ونجحت دراسة جدوى وضع رجلٍ مشرك مؤتمن، حصيف، خِرِّيتٍ بدروب الصحراء، وهو من دراسات الجدوى الناجحة، التي تعي أنه يجوز اتخاذ المشرك في عمل لدى المسلمين، فإذا انتهت مهمته أخذ حقه، ومضى، ولا يتدخل في مصير، ومسير المسلمين، ولا له علاقة بأمورهم، يُنْهِي مهمته، ويمضي إلى شأنه فقط.
ووصلوا بالفعل إلى المدينة، وعاد عبد الله بن أريقط إلى مكة، وطمأن أسرة أبي بكر، هم عبد الرحمن وأخواته بالوصول الآمن للرسول الكريم، وصاحبه.
وفي الطريق شاءتْ إرادة الله أن يجعل شريحة الماء، أو الغاز(وهو السحاب) أن تحميَ الرسول من لهيب الصحراء، ولأوائها، فكان كلما مشيا مشتْ تظللهما، وكلما توقفا توقفتْ، فهي معجزة، وحكمة إلهية، اقتضتْ أن تكون السماء والأرض ومكوناتهما مشاركةً لمراحل الهجرة المباركة، ومُسْهِمَةً في نجاحها.
وكذلك عرَّج الرسول في رحلته على خيمة (أم معبد)، هي عربية أصيلة، وكريمة، وتعرف الأصول فلما وصل وأحب أن يستريح في خيمتها، قدمت له عنزة أو غنمة ضعيفة، ومعها السكين ليذبحها ليأكل، ويطعم على عادة العرب، فلم يشأ أن يُرِيقَ
دما في رحلته المباركة، وأبقى العنزة، أو الغنمة الضعيفة، ولكن طلب منها شيئا يحلب فيه اللبنَ، فتعجبت كيف تحلب الشاة التي لا تكاد تُرَى من ضعفها؟!، ولكن شاءت الحكمة الإلهية أن تظهر بركةُ النبي (صلى الله عليه وسلم)، فوضع يده على ضرعها فصارت لُبَّنًا، يكاد ضرعها ينفجر من كثرة ما فيه من اللبن، فحلب، وشرب، وشربت، وأبقى اللبنَ، وما تبقى منه، والمرأة تتعجب ضاربة كفًّا على كف، لا تكاد تصدق ما تراه عيناها، وكانت ذكية دقيقة، وألمعية، فوصفت الرسول وصفا دقيقا يتطلب فتح كثير من المعاجم حتى يُفهَم، من عادة المرأة أنها دقيقة، وعندما تنظر تنظر بكل عينيها، وتدقِّق، فوصفت لزوجها الذي عاد، فتعجب لسمن العنزة، أو الغنمة، وامتلاء ضرعها، وهي التي يُوقعها بعض الهواء إذا اشتد قليلا، فسألها، فأخبرته بما رأتْ، فقال:(إنه رسول الله، إنه نبي الأمة)، ولكنْ، لم يكن له حظ في رؤيته وملء عينه من بركته، وكان لأمِّ معبد الحظ الأسنى من رؤية الرسول الكريم، وبقي وصفُها تتداوله الكتبُ كأنما عميدُ عمداءِ كليات اللغة العربية في الكون وقف ببلاغته، وقوة فصاحته، وعمق حفظه للغة العربية ومفرداتها يصف شخصَه الشريف وصفًا يليق بنبي آخر الأمم، سيدنا، وحبيبنا، وشفيعنا، وإمامنا، وقدوتنا سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم).
ووصلتِ الرحلة إلى نهايتها، ومرحلتها الأخيرة، إلى المدينة المنورة التي أحسنتِ استقبال الرسول الكريم، وصاحبه، فالرجال صعدوا ينظرون من أعالي التلال بأسلحتهم؛ ليؤمِّنوه، فقد دخل في جوارهم، وفُرِضَ عليهم أن يؤمِّنوه، فهو نبي الأمة (صلى الله عليه وسلم)، وخرج النساء يتغنَّيْنَ بالوصول إلى المدينة، وظهور البدر(صلى الله عليه وسلم).
وأنار المدينة بنوره، وجماله، وكماله، وجلال سيرته، ووضع أحكامًا لم تضعها أكبرُ الدساتير الكونية، وسبق الدنيا كلها بوضع المواثيق لكل المسلمين، وتعاملاتهم مع غير المسلمين، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وقامت دولة الإسلامية قوية، وفاجأت العالم كله، وفاجأتْ قريشًا، وبعد ذلك قامت العهود بين الرسول، وسائر الممالك، والدول، وبعث بالسفراء والرسائل النبوية الشريفة لكل مَنْ وُجِد من أهل الممالك والملوك والعظماء من الأباطرة، والأكاسرة، والقياصرة، وكلها تشهد له بكمال القيادة، وجمال الريادة، وجلال ورحمة السيادة، وقامتْ دولة الإسلام على الحق، والعدل، واحترام العهود، والعقود، والمواثيق، ونال الكون خيرها، وجلالها، وعاش الرسول بين الأنصار، ومعه المهاجرون، وما نسي فضل الأنصار، ولا قَدْرَ المهاجرين، غير أنه كان يحبُّ الأنصار حبًّا شديدا؛ لبذلهم كل ما يملكون لصالح الدين، وأخذوا إخوانهم المهاجرين، وضموهم إليهم، ويكفيك أن يقول أحد الأنصار لأخيه المهاجري:لي زوجتان، انظر أجملهما أطلقْها لك، فإذا انتهت عدتها ، فتزوجْها، ولي بيتان انظر أعجبهما لك فأهديك إياه، فيردُّ المهاجري بكل عفة وتقدير:بارك الله لك في أهلك، ومالك، ولكنْ، دلني على السوق(هي حركة، ونشاط، وإدراك لطبيعة هذا الدين من أول لحظة، وفهم لطبيعة الحياة في المجتمع الإسلامي)، فيبيع، ويشتري ويكسب الكثير، ويتزوج من الأنصاريات، ويأتي، وعليه أثر صفوة (أي جمال، ونضارة)، أو صفرة، فيسأله الرسول:مَهْيَمْ يا عبدَ الرحمن(يعني ابن عوف)، أي يسأل الرسول الكريم عن السبب في جمال هندامه، وكريم ملبسه، وتمشيط شعره، وحسن هيئته، فيقول: تزوجت يا رسول الله، فيقول:كم سُقْتَ لها” أي كم كان مهرُك؟”. قال: نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب، كناية عن كبره، فيقول له:” أولم ولو بشاة”، نعم، إنه كَرَمٌ أنصاريٌّ قوبل بعفة مهاجرية، حيث لم يستغلَّ المهاجري أموال، ولا تعب ولا جهد الأنصاري، بل أثنى عليه، وشكره، وكان عند موته (أي عبد الرحمن بن عوف هذا الذي كلمه الرسول الكريم) الذي جاء، ولا شيء معه ـ لم يعرفوا حجم ثروته يوم وفاته؛ حيث كثرت كثرة تندُّ عن العد، وتصعب على الحصر،
وعلى الإحصاء؛ لكثرتها، وتعددها، واتساعها، وكثرة ما له من أموال وعقارات وأراض، ونحوها مما وجدوه يوم وفاته ـ رضي الله عنه وأرضاه.
هؤلاء هم الأنصار، الذين قال الرسول الكريم فيهم:(لولا الهجرة لكنتُ امرأ من الأنصار، ولو سلك الأنصارُ شِعْبًا، وسلك الناس شِعْبًا لسلكتُ شعب الأنصار، اللهم، ارحم الأنصار، وأبناءَ الأنصار، وأبناءَ أبناءِ الأنصار)، حتى بكى الأنصارُ عن بكرة أبيهم، وأخضلوا لِحَاهم، وقالوا، وهم يبكون حبًّا في حبيبنا، وشفيعنا ـ ونحن معهم في كل حرف قالوه، نردده، وندين الله به:(رضينا برسول الله قَسْمًا، وحظًّا).
رضي الله عن كلِّ المهاجرين، وعن كلِّ الأنصار، وبارك في كلِّ مَنْ ينشر هذا الدين المبارك، ويدافع عن سيرة رسولنا الكريم، ويرفع راية الإسلام في كل مكان، وصلى الله، وسلم، وبارك على صاحب الذكرى العطرة، وعلى آله، وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وكل عام أنتم جميعا بخير.

* د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]