ارتقى الشاعر (سعيد الصقلاوي) مساحة البوح الإشراقي ووفق رؤية تقترب وتتماهى مع النسق الصوفي عبر نموذج اتسم بالعمق وذروة الجمال الروحي والإشارات والإحالات وتزاحم المعاني والشفرات الوجدانيّة الغارقة بالذوبان في نص يوحي بالتحليق وفق دلالة العنوان (ارتقاء) الذي يحمل كثيراً من صبوات الفناء والاتحاد:
أنا إلى الأحد
كلّي ومعتمدي..
فكيف لا نفسي
تبدو ولا جسدي
ألا ترى حُلمي
يمشي على الوقدِ
ألا ترى مددي
في عين معتقدي
ألا ترى كلمي
في سمع منتقدِ. (الديوان: 153، 154).
نلحظ لدى الشاعر تصرفات إيقاعية ليست نمطيّة في ميله للأوزان الرشيقة المتدفقة والتنوع في توالي القوافي بطريقة تفرضها الدفقات العاطفية والروحية، ويتوغل في العروج والبوح الصادح المكتمل الإشارة والبهاء، وبصور توحي أكثر ممّا تخبر أو تصف:
ما مرّ بي، وجعٌ
إلاّ به رشدي
أو طاف بي فرحٌ
إلاّ به كبَدَي
عيني على أفقٍ
فيّاضة الرغد
قلبي إلى عمق
يموج بالسعد
أسمو إلى الأبد
أرقى ولي عمدي
فكيف لا أحد...
أنا وبي أحدي... (الديوان: 154، 155).
يتشابك النسق المفرداتي الضاج بالمعاني النورانيّة والفيض و (الرّشد) و (طاف بيّ فرحٌ) (فيّاضةُ الرغد) (يموج بالسعد) (أسمو إلى الأبد) (فكيف لا أحد) (أنا وبي أحدي) وتلك مفردات قصيدة فيها الكثير من المجاهدة والارتقاء إلى مدارج البوح والتعمق المتواصل مع الذات الإلهية وبلغة شفيفة وصور أخّاذة موحية وملأى بالإشراق الروحي.

وثمّة نص آخر لا يفوتنا التنويه به والإشارة إليه، وهو ينتمي إلى نسق النص آنف الذكر في جوهره، وفيض معانيه، وإشاراته الإشراقية ذات النسق الصوفي والانفتاح على شفرات المجاهدة والتوّحد والعروج العرفاني:
القلب عرش الله لا يكسرُ
والروح روح الله تستبشرُ
والضوء طهر النفس تستغفرُ
والحبّ بيت الله لا يُهجرُ
هو الجمال والرضا الأزهرُ
هو الحياة والمنى الأوفرُ
هو البهاء والعلا الأكبر
هو الجلال والسنا الأنضرُ... (الديوان:157).
ويتصاعد النسغ الاشراقي الروحي في الولوج إلى عوالم التوّحد وتوصيف مدارج الإرتقاء، وفي النص ملامح الفيض (السايكولوجي) وبحث الذات عن هاجس التماهي المطلق مع الجمال حتّى يصل إلى ذروة تعبيرية شفيفة، وهو يصف الحب بمعناه المطلق والكوني:
كي يستريح الحب في
جفن الرضا...
يهب الهناء إلى الحقول
فأنا الذي
جذري تمدّد فارعاً
والأصل تعرفه الأصول (الديوان: 160-161).
ونجد ملمحاً جمالياً ودلالياً في النسق التصاعدي، والتعالقي بين النصوص وكأنّها مشدودة إلى خيط ينتظمها وهي تقدّم فيوضات وزوايا وتوصيفات تكمّل بعضها بعضاً، ونشعر لاسيما في النصوص الاستبصاريّة – ذات الإشراق الوجداني – أنّها تقدّم صوراً مترابطة، ومساحة يطلّ منها الشاعر ويقودنا إلى رحلة إبحار لصور تتضافر لتشكّل رؤية كونية ترتكز على مقاربة مع أعمق معاني الكمال والاكتمال، والتناغم المطلق مع ملاحظة الاهتمام في انتقاء المفردات وتدفّق الجرس اللّفظي مما ينشئ إيقاعاً وتنغيماً فيه روح التمجيد، والتسبيح، واستعارة جلال اللغة كنسقٍ موازٍ لجلال المضامين، وهو يصف رحلة الروح الباحثة عن الفيض والنورانية واقباس السر المطلق الذي يضفي على الموجودات سحراً وسكينة، وهذه المقدمة الإشارية لنص حمل عنوان (مسير):
أمشي..
تحاورني الأسرار
في ولهٍ
بعضي لبعضي
كتاب السر
برهانُ..
أمشي
تفارقني الأطلال مزمنة
ولا يفارقني.. ضوءٌ وإيمان
أمشي.. على قَدرٍ
يمشي به قدر
كأنّما قدري
سرٌ واعلانُ
أمشي حثيثاً
وروح الله.. لي بصري
ولي به
في جنان الروح.. ريحانُ... (الديوان:163-166).
تخفى البنية الإشارية التي تشد الذات الإلهية وتعبّر عن بوح ذاتي فيه الكثير من الخشوع والسكينة، والسعي إلى توازن يجعل الإنسان متماهياً مع نورانية اللطف الأعلى، ولعل توجهنا في تشخيص البوح وأنساقه في هذه النصوص هو ما تكشف عنه قصيدة تمركزت حول هذا المعنى (السايكولوجي) في حوارية ذاتيّة منتجة لدلالات ومفاهيم مع انتقاء شعرية المفردات وعناية في رسم الصور الشعرية التي تقترب من التجسيد الصوري، والنسق البصري وهي دلالة على المراهنة على فكرة الاستبصار والنور والتجسيد الكنائي والسعي إلى التشكيل المشهدي بكل رمزيته وتأويلاته، ففي نص (بوح يغري) نجد التعالق بين البوح والصمت:
ولماذا يغرينا بوح
والصمت لنا معبد
أتراه مرآة القلب
وعين النفس
أم هو للداخل مشهد
هل يعطي البوح ضياء حقيقته
يهدينا زهر سكينته
أو يسقينا ماء محبتّه
أو يمنحنا أفياء حديقته
ويتوّجنا فرحاً يتعسجدُ
وهل البوح طيور الأسرار
وأنفاس الأشجار
حكايا الأنوار
وكشف الأقدار
تصيد ولا نتصيّد... (الديوان: 143- 144).
وهذا النص تحديداً يختزل جوهر الديوان ويعبّر عن فلسفة وفيوضات البوح بكلّ تجلياته، فهو يسعى إلى هذه الطريقة حتّى في النصوص التي لا تتناول مضامين عرفانية مطلقة، وتجسّد المفردات ذات النسق النوراني ومن ملامح التوظيف السيميائي للغة الوجد، والغناء عباراته (مرآة القلب)، و(عين النفس) (البوح ضياء...) (زهر سكينته) (ماء محبته) و (أفياء حديقته) و (فرحاً يتعسجد) و (أنفاس الأشجار) و (حكايا الأنوار) و (تصيد ولا نتصيدِ).. نسق نوراني تشفيري، وإحالة إلى نسقية مجازية واشارات رمزيّة تحمل الكثير من الصور والمعاني العميقة الشفافة والمستترة ونجد أنموذجاً آخر للنحت الاشتقاقي كما مرّ بنا في الفعل (يتفرقد) و (يشاكي) وهنا نجد اشتقاقاً جميلاً ودالاً (يتعسجدُ) وهذه خاصية من خصائص الشاعر، وولعه في الاشتقاق وابتكار المفردة الدالة، وتحقيق مساحة من الانزياح باتجاه معنى أكثر بوحاً وايحاء وتحقيقاً للمعنى المراد بكل دقة وتجسيد. أما القصيدة التي حمل الديوان أو المجموعة عنوانها (غارق يُغنّي) فهي إبحار في فيض من الأسئلة الوجوديّة وتوصيف مكابدة الذات الإنسانية الباحثة عن كينونتها عبر لغة شفيفة، وعبر مساحة من تصادم الأفكار بين الثنائيات المتضادة، ولغتها فيها مساحة السؤال المعرفي والوجودي بنسبة كبيرة، وهي تصوّر التناقض الظواهر الحياتية والإنسانية:
ذاك الغارق في الظل
على حدّ! الجرف يغنّي
هل يبصر احلاماً
في ضوء القلب
ويدرك أنّ الأيام تمنّي
هل يسأل عن زمن الظل
عن روح الطلّ
عن شغف النخل
عن وجع الرمل
عن ما في عين الحق
وعن ما في عين الظن...؟
أيفكّر في مشهده مقترباً
أو مبتعداً أو ما بين البين...؟
هل يتحسس ذكراه
يتلمس منفاه
يتوّجس معناه
هل يشقى في فرح
أو يسعد بالمضني
كيف يغنّي...؟
كيف يغنّي...؟ (الديوان: 135- 136).
وهذا النص مكتظ بالصوّر ومؤطّر بروح الأسئلة الوجوديّة لما تنطوي على كينونة الحياة والوجود من جدلٍ وتعالق وتناقض، وهي بحق قصيدة مختلفة ايقاعياً عن الشعر العمودي وتنتمي للشعر الحر (التفعيلة) بل مختلفة في منحى تطور (سعيد) الشعري الذي خرج بصرياً في مجمل نصوصه ولم يخرج عروضياً، فهو يكثر من الأسئلة الاستفهامية لاسيما بتوظيف (هل) وهي تتكرّر في أكثر من سطر شعري تقريباً، أو مقطع منها وهذا يحيلنا إلى ولع الشاعر بتوظيف اسلوب التكرار لتعميق النسق الإيقاعي على مستوى البناء وتعميق المستوى الدلالي في توكيد المعنى المراد ويختزل روح المفارقة والتناقض في جملته الشعرية: “هل يشقى في فرح؟” وهي صورة شعرية تجمع التناقض لتثير كثيراً من التساؤلات، وتحرّض الذهن على التأمّل والبحث عن المعاني القصيّة وتلك هي خصيصة من خصائص اسلوبيّة (الصقلاوي) في اللّجوء إلى اللغة المجازية ذات النسق الإشاري، وهذا التوجه يعكس نزعة في التعامل مع البنية اللغوية والمنطوق اللساني على أنه مساحة لإنتاج المعاني والأفكار وتأسيس منظومة المضامين وليس اللغة مجرّد وسيلة للنقل والبوح العابر.
أبارك للشاعر (سعيد الصقلاوي) نزعته الحداثية وجمعه الجميل بين التراث والمعاصرة وإن كان حيّياً في مواضع أو نصوص كثيرة إذ يكتب العمودي بطريقة سطرية ليوحي بحداثتها، وهذا وحده يحيل إلى أنّ الشاعر يحمل بذرة التجديد في الشعر العماني المعاصر، وهناك قصائد لديه تنتمي إلى ما يسمّى بـ(قصيدة الشعر) التي نظّر لها العراقيون وأكثروا منها.


* سمير الخليل
أستاذ النقد الأدبي والدراسات الثقافية كلية الآداب في الجامعة المستنصرية - العراق