القراء الكرام.. لقد اصطفى الله تعالى نبيه الكريم محمد ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ واختار له أصحابه ليناصروه وينشروا دعوة الإسلام للعالمين، وكان ممن تميز بالمواقف الحاسمة، والآراء الحازمة، وكان له بين أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ظهورًا مميزًّا في كل الجوانب، والمتقدمين عن كل سابق، الصحابي الجليل (أسيد بن خضير بن سماك بن عتيك).
كان يُكنّى بـ(أبي يحيى) وقيل:(أبي عيسى) وقيل:(أبي عتيك)، ورث المكارم كابرًا عن كابر، فأبوه خضير الكتائب كان زعيم الأوس، وكان واحدًا من كبار أشراف العرب في الجاهلية، ومقاتليهم الأشداء، وكان رئيس الأوس يوم بعاث وقتل يومئذ، وكان ابنه أسيد بعده شريفًا في الجاهلية وفي الإسلام، وورث عن أبيه مكانته، وشجاعته وجوده، فكان ـ قبل أن يسلم ـ واحدًا من زعماء المدينة وأشراف العرب، ورماتها الأفذاذ.
فلما اصطفاه الاسلام، وكان من أتباعه الأعلام، وهدي الى صراط العزيز الحميد، تناهى عزه، وتسامى شرفه، يوم أخذ مكانه، وأخذ واحدًا من أنصار الله وأنصار رسوله، ومن السابقين الى الاسلام العظيم.
ومن أهم أوصافه أنه كان يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي وكانوا في الجاهلية يسمون من كانت فيه تلك الخصال بالكامل فلقبه أهل المدينة بالكامل، وهو لقب كان يحمله أبوه من قبله ولقد كان اسلامه يوم أسلم سريعًا، وحاسمًا وشريفًا، لأن أسيد كان رجلًا مستنير العقل ذكيّ القلب، ويُعدُّ من ذوي العقول والآراء، فعندما أرسل الرسول (عليه الصلاة والسلام) مصعب بن عمير الى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار الذين بايعوا النبي (عليه الصلاة والسلام) على الاسلام بيعة العقبة الأولى، وليدعو غيرهم الى دين الله.
يومئذٍ، جلس أسيد بن خضير، وسعد بن معاذ، وكانا زعيمي قومهما، يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفّه دينهما، ويدعو بدين جديد لا يعرفونه، وقال سعد لأسيد:(انطلق الى هذا الرجل فازجره)، وحمل أسيد حربته، وأغذ السير الى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا الى الاسلام.
وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها الى الله، مصعب بن عمير، وفاجأهم أسيد بغضبه وثورته، وقال له مصعب: هل لك في أن تجلس فتسمع. فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته، كففنا عنك ما تكره؟ فلما رأى مصعبًا يحتكم به إلى المنطق والعقل، غرس حربته في الأرض، وقال لمصعب: لقد أنصفت: هات ما عندك. وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن، ويفسّر له دعوة الدين الجديد. الدين الحق الذي أمر محمد (عليه الصلاة والسلام) بتبليغه ونشر رايته. يقول الذين حضروا هذا المجلس: والله لقد عرفنا في وجه أسيد الاسلام قبل أن يتكلم. عرفناه في اشراقه وتسهّله!، لم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد مبهورًا: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال له مصعب: تطهر بدنك، وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي. ولإن شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية مستقيمة وناصعة، وهي إذ تعرف طريقها، لا تتردد لحظة أمام إرادتها الحازمة. ومن ثمّ، قام أسيد في غير إرجاء ولا إبطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه، وأشرقت به روحه، فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين، معلنًا اسلامه، مودّعًا أيام وثنيّته، وجاهليته، وبعد ذلك كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ، لينقل إليه أخبار المهمة التي كلفه بها. وهي مهمة زجر مصعب بن عمير واخراجه من المدينة، ولكنه عاد إلى سعد بنور التوحيد وضياء الإسلام، فما كاد أن يقترب من مجلس سعد، حتى قال سعد لمن حوله: أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به! أجل! لقد ذهب بوجه طافح بالمرارة، والغضب والتحدي. وعاد بوجه تغشاه السكينة والرحمة والنور! فأسلم أسيد على يد مصعب بن عمير قبل سعد بن معاذ بساعة، وكان أسيد يعرف أن سعد بن معاذ مثله تماما في صفاء جوهره ومضاء عزمه، وسلامة تفكيره وتقديره. ويعلم أنه ليس بينه وبين الإسلام سوى أن يسمع ما سمع هو من كلام الله، الذي يحسن ترتيله وتفسيره سفير الرسول إليهم مصعب بن عمير. فلو قال لسعد مباشرة: إني أسلمت، فقم وأسلم، لكانت مجابهة غير مأمونة العاقبة. إذن عليه أن يثير حميّة سعد بطريقة تدفعه إلى مجلس مصعب حتى يسمع ويرى. فكيف السبيل لهذا؟ والجدير بالذكر أن مصعب نزل ضيفًا على أسعد بن زرارة. وأسعد بن زرارة ابن خالة سعد بن معاذ. وهذا ما جعل أسيد يقول لسعد: لقد حدّثت أن بين الحارثة قد خرجوا الى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك. وقام سعد، تقوده الحميّة والغضب، وأخذ الحربة، وسار مسرعا إلى حيث أسعد ومصعب، ومن معهما من المسلمين. ولما اقترب من المجلس لم يجد ضوضاء ولا لغطا، وإنما وجد السكينة تغشى جماعة يتوسطهم مصعب بن عمير، يتلو آيات الله في خشوع، وهم يصغون إليه في اهتمام عظيم. هنالك أدرك الحيلة التي نسجها له أسيد لكي يحمله على السعي الى هذا المجلس، وإلقاء السمع لما يقوله سفير الإسلام مصعب بن عمير.
ولقد صدقت فراسة أسيد في صاحبه، فما كاد سعد يسمع حتى شرح الله صدره للإسلام، وأخذ مكانه في سرعة الضوء بين المؤمنين السابقين. وانتهى الأمر بإسلام سعد الذي ذهب إلى قبيلته وجمعها، وقال: ما تعدونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، فقال سعد: كلام رجالكم ونسائكم علىّ حرام حتى تسلموا، فأسلموا جميعًا. فبوركت لأسيد هذه الجائزة.
ففي (صحيح البخاري 4/‏‏ 60):(عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَهْلٌ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَوْمَ خَيْبَرَ:(لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ، فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ؟، فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ فَقَالَ: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ).
هذا الفضل لمن يهدي الله به رجلًا واحدًا فما بالكم بمن كان سببا في هداية هؤلاء جميعًا، كما أن أسيد بن خضير رضي الله عنه كان يحمل في قلبه إيمانًا وثيقًا ومضيئًا، وكان إيمانه بفيء عليه من الأناة والحلم وسلامة التقدير ما يجعله أهلًا للثقة دومًا، وشهد العقبة الأخيرة مع السبعين، وكان من النقباء الاثني عشر ليلة العقبة الثانية، وآخى رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بينه وبين زيد بن حارثة وشهد بدرًا وما بعدها، وقيل: وَلَمْ يشهد بدرًا لأنه لَمْ يظن أنه يجري قتال، وشهد أُحدًا وجُرح يومئذٍ سبع جراحات، وثبت يومئذٍ مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين انكشف الناس وشهد الخندق والمشاهد بعدها مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإعمال في النص (صفة الصفوة 1/‏‏ 191)، و(رجال حول الرسول، ص: 336).. وغيرهما من كتب التاريخ.
ولقد عاش أسيد بن خضير ـ رضي الله عنه ـ عابدًا، قانتًا، باذلًا روحه وماله في سبيل الخير، جاعلًا وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنصار نصب عينيه:(اصبروا.. حتى تلقوني على الحوض)، وقد كان راويًا لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومنها مثلًا ما ورد في (شرح رياض الصالحين 1/‏‏ 279):(عن أبي يحيى أسيد بن خضير ـ رضي الله عنه ـ أن رجلًا من الأنصار قال: يا رسول الله، ألا تستعملني كما استعملت فلانًا؟ فقال: إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) (متفق عليه). (وكان ـ رضي الله عنه ـ من أفاضل الناس وأحسنهم صوتًا، وكان الاستماع لصوته وهو يرتل القرآن إحدى المغانم الكبرى التي يحرص أصحاب رسول الله عليها، ذلك الصوت الخاشع الباهر المنير الذي أخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ـ أن الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه) (عون الحنان في شرح الأمثال في القرآن، ص: 157).
وقد وهبه الله تعالى صوتًا جميلًا عذبًا، يملأه الخشوع ويعلوه الخضوع، ولم يقف الأمر على هذه الهبة العظيمة من رب العالمين، بل كل له مواقف بارزة ستظهر لنا في المرات القادمة.


* محمود عدلي الشريف
[email protected]