.. و(الهمس): الصوتُ الخفيُّ كصوت أخفاف الإبل في المشي. وقال مجاهد: هو تخافتُ الكلامِ، وخفضِ الصوتِ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تحريكُ الشفاه من غير نطق، وفي القرطبي:(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) قال:(وخشعت الأصوات) أي: ذلتْ وسكنتْ، عن ابن عباس قال: لما أتى خبرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ سورُ المدينةِ، والجبالُ الخُشَّعُ، فكلُّ لسانٍ ساكتٍ هناكَ لِلْهَيْبَة، (للرحمن) أيْ: من أجله، (فلا تسمع إلا همسًا)، الهمسُ: الصوت الخفي، قاله مجاهد، وعن ابن عباس: الحسُّ الخفيُّ، وعن الحسن وابن جريج: هو صوت وقع الأقدام بعضِها على بعض إلى المحشر، ومنه قول الراجز :(وهن يمشين بنا هَمِيسًا) يعني: صوت أخفاف الإبل في سيرها، ويقال للأسد: الهَمُوسُ؛ لأنه يهمس في الظلمة، أي: يطأ وطئًا خفيًّا، وقيل: الهمس تحريك الشفة، واللسان، وقرأ أبيُّ بنُ كعب: فلا ينطقون إلا همسًا، والمعنى متقاربٌ، أيْ لا يُسمَعُ لهم نطقٌ، ولا كلامٌ، ولا صوتُ أقدام، ويزيد فيقول: بناء(هـ م س) أصله الخفاء كيفما تَصَرَّفَ، ومنه الحروفُ المهموسة، وهي عشرة يجمعها قولك:(حثه شخص فسكت)، وإنما سُمِّيَ الحرفُ مهموسًا لأنه ضعف الاعتماد من موضعه حتى جرى معه النفس، وعند الطبري:(وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ) أي يقول ـ تعالى ذكره: وسكنت أصوات الخلائق للرحمن، فَوَصَفَ الأصواتَ بالخشوع، والمعنى لأهلها: إنهم قد خضع جميعُهم لربهم، فلا تسمعُ لناطق منهم منطقًا، إلا من أذن له الرحمن، كما حدثني عليّ، قال: حدثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:(وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ) يقول: سكنت، وقوله:(فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا) يقول: إنه وطء الأقدام إلى المحشر، وأصله: الصوت الخفيّ، يقال همس فلان إلى فلان بحديثه: إذا أسرّه إليه، وأخفاه، ومنه قول الراجز: وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل، مجاهد، في قوله (فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا) قال: تهافتًا، وقال: تخافُت الكلام. حدثني محمد بن عمرو، حدثنا الحسن، عن مجاهد، قوله (هَمْسا) قال: خفض الصوت، وحدثنا القاسم عن ابن جُريج، عن مجاهد، قال: خفض الصوت، قال: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: كلام الإنسان لا تسمع تحرّك شفتيه، ولسانه، وحدثني يونس، قال: قال ابن زيد، قوله:(فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا) يقول: لا تسمع إلا مشيا، قال: المشي الهمس وطء الأقدام.
وقال ابن عاشور: والخشوع: الخضوع، وفي كلّ شيء من الإنسان مظهر من الخشوع؛ فمظهر الخشوع في الصوت: الإسرار به؛ فلذلك فرع عليه قوله:(فلا تسمعُ إلاّ همسًا)، والهمس: الصوت الخفيّ، والخطاب بقوله:(لا ترى فيها عوجًا)، وقوله:(فلا تسمعُ إلا همسًا): هو خطاب لغير معين، أيْ لا يرى الرائي، ولا يسمع السامع، وجملة:(وخَشَعَتِ الأصوَاتُ) في موضع الحال من ضمير:(يتّبعون)، وإسناد الخشوع إلى الأصوات هو مجازٌ عقليٌّ، فإن الخشوع لأصحاب الأصوات، أو استعير الخشوع لانخفاض الصوت، وإسراره، وهذا الخشوع هو ناشئ من هَوْل المقام.
وكما نرى، فقد أجمع معظم المفسرين على أن الهمس هنا هو همس وقع الأقدام، إلا قليلا ممَّن قال منهم: هو همس الكلام، أو تحريك الشفتين من غير صوت، وقد أدَّتِ الهاءُ، والميمُ، والسينُ هنا دلالةً لا تؤديها حروفٌ أخرى، فتآزرتْ مع أَخَوَيْها: حرفي الهاء والميم، وأعطتْنا تلكَ الأحرفُ الثلاثة صورةً حقيقيةً عن هول الموقف، ورُعْبِ المقام، وَبَيَّنَتْ لنا بجلاءٍ وَجَلَ
القلوب، وصَمْتَ الألسنة، ووقفتْنا تلك الأحرف مجتمعةً متماسكةً متآلفةً على خطورة ذلك الموقف الرعيب، كأننا نراه رأيَ العين، ونعايِنُه بكل حواسِّنا، وهكذا أصواتُ الكلمة القرآنية، تعطي ما وراءها من دلالاتٍ، وتبرز ما خَلْفَهَا من مضامينَ، وتَبُثُّ ما فيها من معانٍ تتناغم والسياقَ الذي وردتْ فيه، وجاءتْ مِنْ أجله.


* د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]