كل يوم يمر يقدم دليلًا على أن الأمن والسلم الدوليين في العالم آيلان إلى مزيد من التدهور، وأن القانون الدولي لم يبلغ سن الرشد بعد وتمثل تصرفات دول كبرى في ما يسمى المجتمع الدولي أكبر دليل على صحة هذا التطور اللافت، حيث إنها (أي بعض الدول الكبرى) حطمت بتدخلاتها المتتالية في الشؤون الداخلية للدول وباعتداءاتها المتوالية على أمنها واستقرارها، كل مفاهيم العدالة الدولية، فأصبحت الدول المتدخَّل في شأنها والمبعوث بأمنها واستقرارها عرضة للانهيار والدمار والتفكك، وغدا شعبها شعوبًا وأشتاتًا في المهاجر والملاجئ، وأصبح بالتالي الوضع الأمني للعالم واستقراره مهلهلين ينذر بتوقف حركة التنمية والاقتصاد وحتى استمرار الحياة بشكلها الطبيعي والاعتيادي.
ونظرًا لهذا السلوك غير السوي والاعتداء على المؤسسات الدولية أضحت الأمم المتحدة واحدة من المؤسسات الدولية غير القادرة على القيام بدورها وتنفيذ التزاماتها تجاه دول العالم وشعوبها، بل إنها تحولت إلى أداة بيد تلك القوى الدولية العابثة بأمن العالم واستقراره.
حتى إن المؤتمرات التي تعقد خارج الأمم المتحدة والتي تقف وراءها تلك القوى الدولية، بدل أن تكون أداة لحفظ الأمن وصون الاستقرار في العالم ونصرة القضايا العادلة للشعوب، باتت بازارًا يلتقي فيه قادة تلك القوى وممثلوها الذين يحرصون في كل مرة تشهد انعقاد مؤتمر دولي، على افتتاح مزاد علني لحقوق الإنسان ودماء الأبرياء في هذا العالم وخاصة حقوق الإنسان العربي والدماء العربية والإسلامية، حيث لا تزال المزايدات على أشدها على حقوق الإنسان الفلسطيني والسوري والعراقي واليمني والسوداني والمصري واللبناني وغيره، ولا تزال أصداء أصوات المزادات تتردد في فضاء هذا العالم الباحث عن السيادة والسلام والحرية والاستقرار والأمن والطمأنينة والتنمية.
لقد كانت لافتة حفلات المزاد هذه في مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن الذي انطلقت أعماله في مدينة ميونيخ الألمانية في نسخته الخمسين الجمعة الماضية، بمشاركة عشرين من رؤساء الدول والحكومات وخمسين من وزراء الدفاع والداخلية، والخارجية وتسعين وفدًا حكوميًّا، حيث تمحورت مزايدات القوى العابثة بأمن العالم واستقراره حول مناطق الأزمات في العالم وفي مقدمتها سوريا وأوكرانيا وإفريقيا الوسطى والقضية الفلسطينية وإيران.
إن اللافت في هذا المؤتمر أيضا أمران؛ الأول: لغة التحريض والتأكيد على التحالف مع الإرهاب ودعمه، وسيطرة الأنانية وعلو لغة الأنا ومحاولة كل قوة من القوى العابثة بالأمن والاستقرار تحويل المؤتمر إلى مطبخ للنفاق وتشويه الحقائق والتأليب والتحريض، كما هو حال الموقف الأميركي على سبيل المثال من الأزمة السورية ومحاولة استغلال المؤتمر في تفريغ الأحقاد والكراهية ضد سوريا، في مقابل تأييد موقف وفد ما يسمى "الائتلاف" المسمى اصطلاحًا "المعارضة" من تأييد الإرهاب ودعمه، بالإضافة إلى المجاهرة الوقحة بالتدخل في الشأن الأوكراني ودعم المعارضة ضد الحكومة، وكذلك محاولة قوى أخرى باحثة عن دور لها أن تفرض حضورها على المسرح الدولي، وأن تعلن تنصلها من مواقفها السابقة التي بدت في صورة قيم ومبادئ تفرض الاحترام، وهو ما ظهر من خلال كلمة الرئيس الألماني يواخيم جاوك في افتتاحه المؤتمر وذلك بتعقيبه على امتناع ألمانيا عن التصويت داخل الأمم المتحدة لتأييد التدخل العسكري في ليبيا عام 2011م مؤكدًا أن مثل هذا السلوك لا ينبغي أن يتكرر. أما الأمر الثاني فيتمثل في تلك اللقاءات الحميمية بين قادة كيان الاحتلال الصهيوني وممثليه وبين بعض الأطراف العربية بما تلك التي لا تعترف رسميًّا بالكيان الصهيوني.
ما يندى له الجبين أن الدول الكبرى ومن يلتحف بعباءتها تتعامل مع حقوق الإنسان وقضايا الشعوب ودماء الأبرياء على أنها مُسخَّرة لمصالحها ومشاريعها الاستعمارية ومغامراتها وأطماعها، وتتعامل في الوقت ذاته مع الرأي العام الدولي وكأنه حفنة من الأطفال أو البلهاء.. إنها قوى شر وإرهاب.