بل إن الأنكى من ذلك كله، هو أن أكثر الدول تبخترًا بعلومها وثوراتها الصناعية، من طراز بريطانيا ودول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، أخذت «تشد الأحزمة» على البطون بسبب ندرة الأمطار والإخفاقات الزراعية والبيئوية الناتجة عن ندرة الأمطار!

على الرغم من معرفة علماء الفيزياء والكيمياء والأنواء الجوية بآليات “الاستمطار” على نحو دقيق، إلا أن النوع البشري ما زال بعيدًا بأطوال زمنية كبيرة من القدرة على إنزال المطر وتوجيه مزنه على النحو الذي يريده لاستزراع الصحارى، ولترطيب جفاف بعض الأصقاع المعرضة لزحف الكثبان الرملية وللتصحر الآن.
أليست هذه ظاهرة تتحدى كبرياء النوع البشري واعتداده بعلومه، ذلك الاعتداء الذي يدَّعي تحقيق المعجزات بفضل تسخير العلوم والتكنولوجيا؟ بل إن الأنكى من ذلك كله، هو أن أكثر الدول تبخترًا بعلومها وثوراتها الصناعية، من طراز بريطانيا ودول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، أخذت “تشد الأحزمة” على البطون بسبب ندرة الأمطار والإخفاقات الزراعية والبيئوية الناتجة عن ندرة الأمطار!
سبق لبحوث علمية (عدت خرافية في وقتها) ذهبت إلى أن الأرض تمرُّ بحقب وتحوُّلات عبر الدهور والعصور، وهي تحوُّلات تقود إلى تحوُّل البقاع الخضراء غزيرة الأمطار إلى صحارى يباب، وإلى تحوُّل أقاليم صحراوية إلى أراض خضراء غناء عبر تتالي الأزمنة الجيولوجية، بدليل ما ذهب إليه الخبراء بافتراضهم أن شبه جزيرة العرب كانت، في حقبة سابقة، أرضًا خضراء تمور بأنواع النباتات والحيوانات. هذا، وقد أماطت الحفريات والتنقيبات اللثام عن مثل هذه التغيرات الجذرية في الأنواء والأجواء درجة انحسار الخليج العربي وتقهقره جنوبًا، بعد أن كان يمتد حتى جنوب بغداد (وسط بلاد الرافدين) شيئًا فشيئًا بسبب الطمي التي تحملها مياه النهران العظيمان، دجلة والفرات من جبال تركيا وإيران جنوبًا إلى الخليج.
بيد أن المعضلة الحالية تبدو طارئة ومباشرة الآثار أكثر على المدى القصير: فهل تستطيع بريطانيا أن تنتظر دهورًا جيولوجية كي تعود أمطارها كما كانت غزيرة؛ وهل ننتظر، في شبه جزيرة العرب، دهورًا أخرى كي تتحول أرضها إلى بساتين غناء، كما كانت في العصر الجليدي؟
هنا بالضبط يقف العلم عاجزًا أمام الحاجة المتزايدة على تسبيب الأمطار وتوجيه وإدارة مزنها إلى الاتجاهات المطلوبة الآن، وذلك لتغذية سكان المناطق المهددة بالمجاعات أو التي تعاني من العطش على “حافات المياه”، كما هي عليه الحال في مدن ولاية أريزونا الأميركية، حيث أحيا اليوم، إذ تتصاعد صيحات التحذير داعية المرء إلى حساب كل قطرة ماء يستهلكها، تجنبًا لنكبة جفاف ما يحمله نهر كولورادو من المياه، إذ يتهدد كامل الجنوب الغربي للولايات المتحدة الأميركية!


أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي