تُمثِّل تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة وما يليها أحد أبرز الجوانب الإيجابية التي سهَّلت حياة الناس في مختلف المجالات، فلم يبقَ مجال حياتي بعيدا عن هذه التطبيقات بل ووصلت إلى تخصصات دقيقة قد يصعب تخيل أن تصل لها التكنولوجيا، فأصبح الخيال حقيقة بصورة متسارعة لم تعهدها البشرية سابقا. ومن أبرز تلك المجالات المجال التعليمي، فقد سرعت جائحة كورونا الانتقال السريع من التعليم المعتمد على الجوانب والأساليب التقليدية إلى الاعتماد على البرمجيات والطرق التي وفَّرتها الثورة التكنولوجية. وقد تحدثت سابقا في مقالات متعددة حول أهمية الاستمرار والتطوير لهذه البرمجيات والتقنيات حتى بعد زوال الجائحة وأن الرجوع بالتعليم لِمَا قبل الجائحة هو نوع من الانتحار الحضاري الذي يجب أن نعي نتائجه الكارثية، فالمكاسب التي تحققت يجب أن تستمر وتتطور، وبل ويتم التطوير والتحسين لكل مجالات التعليم انطلاقا من هذا المفهوم.
ولعل التطوير الذي ننشده ليس مرتبطا بالطرق والأساليب التدريسية فقط، بل نحتاج أن نقف قليلا مع إشكالية تواجهنا في بداية كل عام دراسي تتمثل في شراء المستلزمات المدرسية التي تثقل كاهل أولياء الأمور، وكذلك الكتب الدراسية التي تثقل كاهل ميزانية وزارة التربية والتعليم، ناهيك عن الجوانب الصحية السلبية التي تنعكس على الطالب من خلال حمله للحقيبة المدرسية التي تئن بالكثير من الكتب والدفاتر والمستلزمات الأخرى. وقد كُتبت العديد من المقالات وأُجريت العديد من الدراسات حول هذه المواضيع، ولو عملنا حسبة بسيطة سنويا لكي نعرف مقدار هذه المبالغ لوجدناها مبالغ طائلة، فلماذا لا نستفيد أيضا من تطبيقات الثورة التكنولوجية في هذا الشأن؟ أم أن الموضوع خارج نطاق تفكيرنا وقدرتنا؟ لقد قامت دول عديدة وأقل منا من حيث القدرة المالية، وبها عدد سكان يفوقنا بأضعاف مضاعفة، بشراء أجهزة لوحية لكل طالب من طلبتها بحيث يستغني الطالب عن شراء الحقيبة المدرسية والدفاتر وبقية المستلزمات المرتبطة بها، بل ويتم تنزيل جميع الكتب الدراسية بها، وبالتالي وفرت مبالغ مالية كبيرة، سواء تعلقت تلك المبالغ بولي الأمر أو بوزارة التربية والتعليم، والوزارة هنا لا تستفيد ماديا فقط، بل يعالج هذا الجهاز اللوحي مشكلة أزلية تتمثل في عملية تطوير المناهج، فالعائق في عملية تطوير أو استحداث أي منهج دراسي هو عملية طباعة هذه الكتب، وبالتالي يسهل على الوزارة مواكبة التغييرات المتلاحقة في مجال المناهج بحيث تستطيع تنزيل ما تريد من كتب إلكترونيا في هذا الجهاز وبدون الحاجة للطباعة الورقية، كما سيستفيد المعلم من هذا التطوير بحيث يعمل على تطوير أساليبه التدريسية وتقديم المحتوى بصورة أكثر ديناميكية للطلبة. باختصار، الكل سيستفيد وبجوانب مختلفة يصعب حصرها، كما أن هذا الجهاز اللوحي سيظل سنوات عديدة بحوزة الطالب، وهنالك الكثير من الشركات التي يمكنها توفير هذه الأجهزة وبأسعار تنافسية، وبالتالي قضينا على مشكلة أزلية تؤرق الجميع.
إننا في مرحلة سباق مع الزمن لمواكبة مختلف تطورات الحياة المتسارعة، وإذا لم نحسن ضبط سرعتنا بما يتوافق مع هذه التطورات فسيكون مآلنا إلى التقهقر، ولا شك أن القائمين على المنظومة التربوية، ومن له علاقة بهذا الجانب من وزارات ووحدات حكومية وخاصة، سيسعون لمواكبة هذا التطوير، فإذا كانت القدرات المالية هي العائق ـ كما يتصور البعض ـ ففي اعتقادي الشخصي أن حسبة بسيطة ستكشف أن التوجُّه للتكنولوجيا رهان رابح ماديا أكثر مما يتم صرفه الآن على الكتب الدراسية والدفاتر المدرسية، وإذا كان هنالك من يقول إن هذا الأمر سيحقق خسائر لأصحاب المكتبات ومن يوردون هذه المستلزمات، ففي اعتقادي الشخصي أن هنالك مجالات أخرى توفرها الثورة التكنولوجية في المجال التعليمي يمكنهم الاستفادة منها، وعليهم أن يواكبوا هذه التطورات وأن لا يظلوا متقوقعين على أنفسهم، فكل الثورات الصناعية منذ الأزل وحتى وقتنا الحاضر تقضي على وظائف وتفتح المجال لوظائف أكبر عدد من سابقتها، والذكي من يعرف ماهية هذه الوظائف ويعد العدة لتعلمها بحيث يكون قادرا على مواكبة كل جديد.


د. خصيب بن عبدالله القريني
[email protected]