من يستطيع أن يحل هذه الأحجية العجيبة الغريبة التي تشربك العراق بداخلها، خصوصًا بعد أن تم تحييد الجيش العراقي وسواه من أذرع الدولة المسلحة؟
هي ليست بغداد وحدها، بل هو العراق بأسره يكتوي الآن متلظيًا على صفيح ساخن، بعد ما يقارب العقدين من الحكومات التي اتهمتها قيادات التيار الصدري (مبررة) بالفساد وبسواه من الاختلالات التي قادت إلى إحالة العراق إلى دولة ضعيفة، درجة تأجيج أطماع بعض الدول المجاورة، ليس فقط بالعمل على الإفادة من وضع العراق غير المستقر، بل كذلك إلى محاولة بسط الهيمنة عليه، كما عكست ذلك مقابلة “عجيبة” لمندوب صحفي مع شاب إيراني كان يقوم بجمع “الأتاوات” في مدينة النجف الأشرف، بوصف تلك الأموال “ضرائب”! هذا دليل على تبلور “فضاء فراغ قوة” يمكن أن يمتص أية قوة، داخلية أو خارجية، لملئه.
هذا، على نحو الدقة، هو جوهر ما يحدث في العراق الآن، كما أراه، إذ تحاول فوائض القوة والجبروت الخارجية (إيران خاصة)، والداخلية (على أشكالها) الاندفاع لملء خواء السلطة المتجسد في الإخفاق في السيطرة على الجمهور المحتج وإدارة طاقاته (ويطلق عليه الإعلام وصف “صدري”) وهو الجمهور الذي يمكن ركوب موجاته الغاضبة من قبل قوى انتهازية تتربص بالوضع الشديد السيولة والغيمية لتحقيق مآربها الغامضة، بدليل شكوى الجمهور من ظهور جماعات مسلحة تستهدف القوى الأمنية برصاصها، درجة أن لاذت القوى الأمنية بالاحتماء بالمتظاهرين داخل القصر الجمهوري (قصر الحكومة)، بدلًا عن قيامها بلجم وبتر حركتهم “المتمردة” ضد حكومة الكاظمي المؤقتة!
من يستطيع أن يحل هذه الأحجية العجيبة الغريبة التي تشربك العراق بداخلها، خصوصًا بعد أن تم تحييد الجيش العراقي وسواه من أذرع الدولة المسلحة؟ كنا، في سابق السنين (منذ سنة 1958)، نترقب ظهور ضابط أو ضباط جيش نزقين لينتشلوا الدولة من الفوضى، كما حدث في سابق العقود، إلا أن الجيش الآن مغيّب وغارق، بلا حول ولا قوة، في محيط هائج من الميليشيات والحشود المسلحة التي تخدم “أجندات” مصلحية محدودة، وليست وطنية أو قومية شاملة!

أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي