لماذا أكتب؟" يبقى سؤال الكاتب حيثما كان، فالحروف عادةً ما تنزف دمًا لا عبثًا أو ترفًا إلّا لمن أرادوا أن يكونوا إمّا محلّقين في عالم الفلسفة وبحرها الشاسع، أو الغارقين في الأنا المتضخمة التي ترضي غرور الذات، وتصبح الكتابة عند المهمومين بقضيةٍ أو فكرةٍ إنسانية نمطًا من جدارية تحرر الجسد من أعبائه كما الروح من ثقلها، وإذا أبحرنا في عالم الكتابة نجد لكل كاتبٍ هدفه الخاص الذي يتداخل مع العام من وراء الجلوس في حيز المكان أو خارجه حيث المنفى يطغى بكل مفردات حضوره، حيث تلمسنا كيف كان هاجس كتابة السيرة الذاتية يؤرق الكثير من المبدعين ومنهم على سبيل المثال النموذج لا الحصر (إدوارد سعيد) الذي عاش وقاوم الموت بالكتابة والنضال والإرادة وبقي هاجسه حمل أغراضه منذ بداية اقترابه من ازدواجية اسمه إدوارد وسعيد، فقال في منفاه وهو يصارع مرضًا ينخر عظام الروح لا جوهرها: لا أريد أن أهدأ، إنها لحظة الصراع مع ما تبقى من الوقت حين يدرك الكاتب أنه لم يعد هناك متسعٌ منه، بحيث يبقى القلم هو السلاح الأمين على رواية معاناة الكاتب العامة والخاصة مع المرض إعلانًا مستمرًا للحياة رغم احتمالات الرحيل المنتظر. وهكذا كان قلم سعيد كما غيره من الذين اختبروا معرفة قيمة عقارب الساعة حين تدور وكيف تطوّع لتكون حروفًا يخطها قلم كل الرواة الذين تولد الأوطان في العالم بنصوصهم، وتصير وطناً لكل المنفيين والنازحين والفقراء والشرفاء، كما وصف أحد الكتاب قيمة كل كلمة يكتبها مفكر ومناضل وإنسان في شتات هذا العالم.
كانت هذه الفكرة هي الطاغية في الأمسية الثقافية الدافئة التي تمّت بدعوة من لجنة مسيرة العودة إلى فلسطين ومنظمة الشبيبة الفلسطينية مساء الجمعة 23 يناير في مبنى اليونسيكو في بيروت، والتي استضافت الدكتور فايز رشيد الطبيب والروائي والسياسي الفلسطيني للحوار حول روايته (عائد إلى الحياة)، التي تمزج بين تجربته الخاصة في مواجهته لعدو مختلف من نوع خاص مباغت مختلف محاط اجتماعيًا بألف علامة تخوّف وسؤال يتجسد في مرض السرطان، وبين تجربته الحياتية النضالية العامة مع عدو كرس فكره وقلبه لمواجهته منذ أن سرق أرضه وبحره وحلمه وكان ولايزال ديدنه مع رفيقة دربه المناضلة ليلى خالد كما جاء في تقديم الدكتور خالد الصافي للرواية.
تخللت الأمسية التي قدمتها الكاتبة والشاعرة انتصار الدنان مشاركة جوهرية المضمون في تحليلها النقدي لزهو الجراح في رواية عائد إلى الحياة، قدمها الشاعر والإعلامي اللبناني الفلسطيني اسكندر حبش الناقد لكل هذه التقدمة في المسميات، حيث قال: إنّ رواية عائد إلى الحياة تكمن أبجديتها في تحريضها على المواجهة مع شرط آخر خارج الشرط الفلسطيني الذي سبق للروائي فايز رشيد أن حثنا على أن نغرق في تفاصيل جرحه وثورته الأبدية في روايته السابقة (وما زالت سعاد تنتظر)، حيث النقلة إلى الشرط الإنساني بمعناه الوجودي البحت على الرغم أنه منذ أن وصلتني الرواية وقبل أن أقرأها، وبناءً على معرفتي ببعض كتب الكاتب، ظننت للوهلة الأولى أنه يكتب تغريبة فلسطينية أخرى، بل عودة فلسطينية، حيث فكرة التماهي مع عنوان "عائد إلى حيفا"، واعتقدت أنّ فايز رشيد ربما عاد إلى قلقيلية، مسقط القلب، ليكتب لنا صورة عنها في الزمن الراهن، لكن هذا التخاطر الذهني سرعان ما تبدد حين عرفت من المقدمة أنها رواية، سيرة يتحدث فيها عن تجربته الحياتية مع المرض الذي أصابه وكيف انتصر عليه.
من جانبٍ آخر شارك المناضل والروائي والسياسي مروان عبد العال بمداخلة حول أهمية دلالات عقد الأمسيات الثقافية لقراءة الأعمال الأدبية والإبداعية، حيث إنّ شكل ومضمون الثقافة مفصلًا أساسيًا ومحوريًا من مفردات الهوية الوطنية، كما تأتي أهمية اللقاء ارتباطًا مع المهمة الاستثنائية المناطة بالمثقف الفلسطيني خاصةً والعربي عامةً للقيام بدور ريادي مأمول إزاء المجتمع بغية إعادة الحياة إلى الثقافة وسط بيئة الخراب التي نعيشها، حيث تبقى مساحة الثقافة الوطنية الفلسطينية أوسع من الحدود الإنسانية.
وقال الكاتب مروان عبد العال إنّ رواية "عائد إلى الحياة" الصادرة عن دار الآداب في بيروت عام 2014 هي إضافة جديدة إلى الساحة الإبداعية وقد تميزت بمونولوج إنساني يفترش سرير الوجع بسرد داخلي يعرض مبارزة بين الأمل واليأس ومع الحزن والفرح وعلى حافة الموت والحياة، بأسلوب بسيط ورشيق وشفاف، وكأنه حالة تنفس، شهيق وزفير على مدار زمن المرض الذي هو زمن الرواية، حيث تحار بشخصية الراوية بين البطل والروائي والكاتب والطبيب، هل يكتب بالألم أم يكتب بالقلم؟ وقد يكون بالإثنين معًا، وما كان بيننا لو لم يتمسك بسلاح الأمل، وما بين هنّات القلم وعنّات الألم وصراع مع الموت، تكتب تفاصيل اللحظات بكل ما فيها من حس إنساني، ونشوة الفوز على لعنة الموت الفردي ولكن دون أن يغفل فكرة الموت في الحالة الفلسطينية، الذي يشبه بالخلود إن كان في الوطن وموت إن كان في المنفى، حين يقول: "الموت هو خلود فمهما اختلفت ظروف الوطن.
وفي ختام الأمسية قال الروائي الدكتور فايز رشيد: إنّ أي تجربة حياتية وبشكلٍ خاص مرضية تحمل في ثناياها قيمة إنسانية كبيرة، "وهنا لا أدّعي في الرواية البطولات، فكلنا نواجه لحظات ضعف إنساني كما لحظات قوة، ولكني أقدم تجربتي بدعم من كل المحبين للآخر ولكسر فكرة المرض الهاجس، الوهم، ولاستعادة إشارات اللغة في العائلة المحبة" .. تلك الخيوط المتخفية بيني وبين رفيقة الحياة حين تكون للعيون صلة وللقلبين دقة مشتركة وللحبيبين تواصل، وحين يصبح للثواني قيمة كما للخيار الصعب وكسر التابو السائد حول المرض ووهم الاستسلام المدمر، وغيرها من الأسئلة التي لا تتوقف عن الضجيج في داخل كل منا في لحظات الضعف لنعلن بعدها قرارنا الموجز في أن نصمم أو نستكين في معركة الحياة الواحدة في إطارها الوجودي الخاص والعام.
على مدى الثلاثة أيام التالية وقع رشيد روايته في كل من مدينة صيدا وصور ومخيم برج الشمالي القريب من المدينة في أجواء من الحضور الثقافي للهيئات المهتمة وفي تركيز على المضامين الإنسانية والفنية للرواية من قبل العديد من النقاد الذين تناولوها.