- فـي رصيدها خمسة دواوين شعرية

أجرى اللقاء ـ وحيد تاجا :
قال عنها الشاعر أدونيس “إن شعرها يغالب طغيان العالم”. ورأت الناقدة الفرنسية لوسي غيوفي ”في شعرها اختلافا كبيرا عما عرفته من الشعر العربي والنسوي بشكل عام”.. وكانت الشاعرة العربية الوحيدة التي اختارتها مجلة شعر la Poesie الفرنسية، ونشرت مختارات من ديوانها “تأويل الخطأ” إلى جانب أهم الأسماء الشعرية في العالم مثل ميشلدوغيه، ناظم حكمت، ريجينا لجيلارد، مارتن روف، كلايتونايشلمان، كمال آوزار، كاتارينا فروستنسون وغيرهم..
إنها الشاعرة الفلسطينية نداء يونس.
صدر لها خمسة دواوين شعرية كما صدر لها مجموعة مختارات في اصدار خاص تحت عنوان “كتابة الصمت”، ومجموعة مختارات بعنوان “تأويل الخطأ”، و”العطارون من نيسابور” باللغة الفرنسية –(ترجمات).
التقيناها وكان هذا الحوار:
ـ إشارة إلى أسماء مجموعاتك الشعرية. أسأل: كيف يُمكن للصمت ان يُكتب.. وبالتالي إلى أين يؤدي بنا “تأويل الخطأ”؟
الصمت كلام الذات لذاتها، إنه ليس صمتا بمفهوم السكوت، وليس امتناعا عن الكلام، بل حالة يتمثل فيها أعلى أنواع الضجيج. الصمت أيضا جهل الآخرين، وعجزنا.. هذا الصمت انفعال النفسي بكل شحنته الاجتماعية، لا شك في كونه انفعالا يتأمل الخراب العام، ولكنه لا يملك موهبة التزام الصمت.
وأما الحديثُ عن الطَّهارةُ فإنه لا يكونُ إلا بالصَّمتِ، وأما العَرشُ فإنهُ “الصوفا” في زاويةٍ نُحَرِّكُ منها العالم.
قد يكون تأويل الخطأ صوابا، أنا هنا لا أحكي عن الخطأ الذي يمكنه أن يكون صوابًا فقط لكنني انحاز إلى التأويل ـ تأويل الحب. حيث لم يتفق العالم على “خطأ” سوى الحب؛ طالما كان هذا اللامرئي الأعظم منبوذا ومطاردًا ومحكومًا عليه؛ طالما كان تأويل هذا الخطأ ومحاولة تفسيره ممارسة فردية لا تقدم سوى المزيد من القداسة للمقدس، ربما كان هذا التأويل ثورة على الاحكام، ورفضا لمنطق الآخرين ومواجهةً، من خلال إعادة تعيين التأويل وأفهمته، يؤدي الشعر وظيفته: خلق مدلولات جديدة لدوال معروفة، تدمير للسياقات وبناء أخرى، وهكذا الحب، فعل الصمت الأكثر ضجيجا، فعل الضجيج الأكثر هدوءً. بهذا، تصبح الكتابة فعل تجسيد، صمتٌ جسدٌ له صوت. هل يضيء هذا على فكرتي التأويل والخطأ؟
ـ رأى الشاعر المتوكل طه أن الثيمة الرئيسة في نصوص كتابة الصمت تكاد تكون الحرمان أو العطش؟ ما رأيك
تعلم أن النص الذي يقرأ مرة واحدة يموت وأن النص الذي يقرأ على وجهة واحدة ينتهي.. لا يمكنني أن أتفق أو أن أختلف ولا أن أنحاز إلى قراءة بعينها، لي أن أكتب فقط، أما القراءات فهي استطالات تضيف أبعادا وإضاءاتٍ تجعل من تجربة الكتابة مغامرة تستحق ومن الشعر سلطة مضادة للجاهز والقوالب والمعرفة التي تم إنتاجها بقياس محدد.
ـ على صعيد شكل القصيدة. هل يمكن القول إن الصراع في فلسطين قد حسم لصالح قصيدة النثر؟
كنت أحب أن أنحاز إلى فكرتي البسيطة بأن القصيدة توحَى كما هي، بشكلها الذي يشبهنا، بعيوبها التي تشبه نقائصنا وبالشكل التي نحب به أن نواجه العالم، وإلى قناعتي بأن القصيدة تدريب على ترجمة مستمرة للذات وتفاعلاتها مع محيطٍ ليس صدفة أنه غير مستقر بالمطلق، لهذا لا يمكنني أن أتجاهل أن القصيدة معركة مع كل شيء، وأعلم أنها قد لا تنتهي بالنصر دائما، لكنني أعتقد أن الصراع في فلسطين قد حسم لصالح الرغبة في الثورة على القوالب والكلاسيكيات. لم يعد ثقل لحظتنا الوجودية ولا أزماتنا بدءا من الذاتي مرورا بالاجتماعي وانتهاء بالسياسي محتملًا.
ـ يلاحظ القارئ لشعرك بشكل عام جنوحا إلى البوح الأنثوي والعشق الصوفي، حتى أن البعض رأى في قصائدك ـ”صوفيّة جديدة للجسد”، فما سر الربط بين هذه الثنائية التي قد تبدو في كثير من أعمالكِ؟
في الحب والتصوف؛ من رأى فقد علم ومن علم فقد استدخل ذاته منزله لا يبلغها إلا الشفيف المتمرس ومن دخل فقد استبطن، وأما هذا الذي رأى فقد انكشف إليه عشق؛ كان الجسد فيه مسرحا لتظهير الحب وإظهاره، وهذا التجسيد هو المنحى البشري الطبيعي خارج القيد والتعاليم لتجسيد اللامرئي الأعظم: ألم يقل: “عجلا جسدا له خوار”. أي طقس للحب يليق سوى تنورة العاشق، وأي جهل؟ ولا أقصد جهل العارف عند تمام المنزلة بل جهالة الرائي عند اكتمال الاستدارة؟ الجسد الصوفي ثائر وعاشق؛ هل لي بوسيط أعظم، بثنائية أجلَّ، كي تحملني ونصي؟
ـ يرى أحد النقاد أن “المرأة تعرف مسبقا، عندما تختار الكتابة، أنها تدخل معركة كبيرة واسعة ومثيرة قد تربح فيها ذاتها الكاتبة وتخسر فيها ذاتها الجماعية التي تقف عائقا مستمرا أمام تطلعات الكتابة، ورغباتها المتوحشة”، ما رأيك بهذه الرؤية...؟
أتفق تماما. نحن الشاعرات نعلم حين يقع اختيار الغيب علينا أننا سنكون أيضا أمازونيات، محاربات بثدي واحد وبقوس مشدود دائما وبحواف حادة لأحلامنا.
ففي عالمنا العربي، تلجأ الشاعرات إما إلى إعادة إنتاج المجتمع بحدوده وقيوده أو يقمن بتشفير المعاني فيصبح الشعر غامضا ومسخا يزاوج بين تطلعات الكتابة والقيود، أو يكتبن رؤيتهن التي تجرح الوعي والموروث وتدعو إلى المساءلة أو تقدم البدائل؛ إنهن يخرجهن على سلطة الجميع.
تتعرض النساء لاستهدافات معلنة وخفية، لعنف رمزي غالبا وإقصاء. يمكن أن نحدس ذلك من خلال حجم الخوف ومرآوية المنتج الشعري للواقع، كما يمكن أن نلمسه من الاهتمام بتلك الكاتبات اللاتي لا يقدمن شيئا في إطار مفهوم الشعر كسلطة أو مفهومه كنبوءة أو حتى على مستوى طبيعي: المستوى اللغوي والتركيبي.
يقول صاموئيل بيكيت”ينبغي الاستمرار، لا يمكنني أن أستمرَّ، يجِبُ المُواصلة، ومن ثَمَّ، عليّ أن أستمِرَّ، يجب قولُ الكلماتِ، وطالما هي موجودة يجب قولُهَا”.
الواقع “كلب لا ينبح لكنه يصيبني بالصداع”
ـ يخطرني سؤال هنا عن دور الشاعر ووظيفة الشعر.. وهل على القصيدة أن تؤسس لعالم جمالي أم تخلق واقعا أم تقترب من هذا الواقع؟
أكره أن يكون الأدب وتحديدا الشعر مرآة للواقع: ليس لأنني لا أُومن بالدور التوثيقي للشعر والأدب الذي قد يتبناه البعض في محاولة لتحويل الشاعر إلى مؤرخ فقط، بل لأن الواقع فعلا أسوأ من أن نعيشه مرتين، أتكلم هنا كعربية وكامرأة؛ كما أقول هذا ليس لأن الشعر لا يمكنه حمل السردية بل لأن الشعر والجنون طريقتان قديمتان قدم الوعي ذاته لتحدي سلطات الخطاب القائمة في كل عصر؛ إنه سلطة موازية قادرة على خلق أفقها وتشريعاتها ودلالاتها الجديدة، فلماذا ينبغي أن نقبل بأن يفرغ الشعر من ماهيته السلطوية والرافضة وأن يتم تدجينه ليصبح جهازا أيديولوجيا لسلطات الخطاب وبوقا لها؛ أو درسا في كيمياء الخوامل.
ـ ما هو شعور الشاعر المبدع وهو يقرأ يوميا عن “موت الشعر” وازدهار الرواية والسرد؟
لا أرى موت الشعر بل موت القارئ، على هنا أن أضيف أنني لا أُومن بما يقال عن نخبوية الشعر فهو كأي حقل معرفي يحتاج فهمه إلى قارئ مطلع ونخبوي أحيانا حتى يمكنه فكفكة الدوال ومدلولاتها الجديدة والعلاقات التي تحيل إليها الأشياء واستدعاء المعرفة لفهم إعادة كتابة الواقع.
إن التحول الذي تنحى إليه مجتمعاتنا في ظل ما بعد الحداثة إلى الاستعراض والفرجة والاستهلاك السطحي لكل شيء، ينعكس سلبا على قدرة القارئ على التفكيك: تفكيك البنى والصور والأساطير والإحالات والقفز من السطحي إلى المعنى الأعمق والاتصال بعوالم أبعد من اليومي والمتاح، كما أنه يقتل المخيال كما تقتل مرحلة ما بعد الحداثة كافة المرجعيات والروابط المؤسِسَة، بالتالي، يصبح من الطبيعي أن يرتاح القارئ مع النص المباشر الأقل قدرة على التحليق والأكثر تكلفة في الفهم والاستعداد للتلقي دون متطلبات معرفية أو شعورية.
الشعر تمرين في التكثيف بينما السرد تمرين في الكلام، وهذا ما يقدم براهين على أن المجتمعات البشرية تعود إلى مجتمعات القبائل الأولى، مجتمعات السمعي والصوتي، لكنها القبيلة الرقمية الآن ما يتداول المعرفة بقدر أقل من التخييل وقدر أكبر من الإثارة والتوتر والاستهلاكية التي يتميز بها السرد سواء الإعلامي أو الروائي.