كما يلاحظ أنه ومنذ نهاية الحرب الباردة ارتفع دور الفاعلين من غير الدول، سواء الجماعات السياسية، أو المسلحة، أو الشركات المتعددة الجنسيات، خصوصا غير الخاضعة لسيطرة الدول بشكل كبير..

لماذا الاهتمام بموضوع تراجع وصعود الفاعلين في النظام الدولي؟ ولا نقصد بالفاعل هنا الوحدات الرئيسية أو الدول فقط، بل كل المؤثرين في الخريطة الجيوسياسية الدولية، المؤثرين في شكل ومضمون النظام العالمي، الفاعلين القادرين على تغيير السياسة الدولية من مختلف الوحدات الرئيسية والثانوية، الفواعل من الدول ومن غير الدول. باختصار؛ لأنهم من يملك أزرار ريموت كنترول الخريطة الجيوسياسية الدولية؛ ولأنهم من يتحكم بمسارات المستقبل في النظام العالمي؛ لأنهم قادرون على التأثير والتغيير وقلب الأوضاع وتشكيل السياسات الدولية المختلفة، خصوصا الأمنية منها والاقتصادية.
ونسأل أولا: ماذا يقصد بالوحدات الثانوية أو الفاعلين غير الرئيسيين في النظام العالمي أو الدولي؟ يمكن القول: إن كل وحدة مؤثرة أو فاعلة من دون الدول في النظام الدولي هي فاعل ثانوي أو غير رئيسي؛ و”قد استخدم مصطلح اللاعب اللادولة عامة بوصفه عبارة شاملة للدلالة على عدد وفير من المنظمات والقوى المختلفة النشطة حاليا ضمن خريطة السياسة العالمية”(1 )
وبينما يكاد أهل الاختصاص في السياسة والعلاقات الدولية على اتفاق تام بأن “الدولة هي الفاعل الرئيسي في هيكل النظام الدولي؛ لِمَا تتمتع به الدول بصفة السيادة”(2 ) “بَيْدَ أنها لم تعد اللاعب الوحيد كما كانت عليه الحال في تنظيم العلاقات الدولية، إذ ظهرت إلى جانب الدول كوحدات سياسية وحدات أخرى ثانوية كالمنظمات العالمية والإقليمية الحكومية منها وغير الحكومية، والمؤسسات والشركات متعددة الجنسيات، وحركات وقوى عابرة للحدود الوطنية مثل التنظيمات الإرهابية ورجال المال والأعمال ـ دخلت جميعها في صيغ متباينة في التفاعلات سلبًا أو إيجابًا في النظام الدولي( 3)
صحيح أن المجموعات الجغرافية والدول ذات السيادة سوف تستمر كما يؤكد ذلك العديد من المحللين والمراقبين مثل جوزيف ناي (الابن) في كتابه “مفارقة القوة الأميركية في تأدية” دور كبير في السياسة العالمية لزمن طويل مقبل ولكنها ستكون أقل عزلة وانطواء على نفسها، وأكثر مسامية، وسوف يتعين عليها أن تتقاسم المسرح مع عناصر فاعلة أخرى قادرة على استخدام المعلومات لتوسيع قوتها الناعمة الطرية، والضغط على الحكومات بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق تعبئة الجماهير”.
لعبت المتغيرات السياسية منها والاقتصادية والأمنية العابرة للحدود الوطنية دورا كبيرا وخطيرا في تمكين أولئك اللاعبين الثانويين في النظام الدولي الراهن، وأقصد بالتمكين هنا الحصول على الأوراق الرابحة القادرة على منافسة الدول في بعض الأحيان، والتقدم عليها في أحيان أخرى، وهو ما يتضح جليا في الأدوار التي تلعبها الشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الدولية والجماعات الإرهابية في بعض الأوقات من خلال التأثير على القرارات السياسية والاقتصادية والأمنية الدولية.
يضاف إلى ما سبق أن لعصر المعلومات والتكنولوجيا العابرة للحدود الوطنية دورا كبيرا ومباشرا في تكوين وبناء هذه الأهمية للفاعلين من غير الدول، خصوصا الشركات العابرة للحدود الوطنية والتنظيمات الإرهابية، على المسرح الدولي، وهي جزء من الديموقراطية اللاإرادية للتكنولوجيا، وقد استغل هذا الانفتاح والانكشاف والتكنولوجيا من قبل الخصوم، فأصبح لأشخاص وجماعات تأثير واضح في النظام الدولي الذي اقتصر قبل ربع قرن على الدول”(4 )
كذلك عبر تلك الأدوار التي تلعبها كشريك أو مساهم لبعض الدول في قضايا ذات أهمية بالغة على رقعة الشطرنج الدولية، خصوصا القضايا الأمنية والسياسية منها، سواء كان ذلك في الخفاء أو العلن، وهو ما يتأكد كل يوم عبر تلك التبادلات والاعتمادات الواضحة بين بعض الدول والمنظمات الإرهابية، والتي أصبح لها من التأثير على رقعة الشطرنج الدولية ما يجعلها من الفاعلين المؤثرين في السياسات الدولية والمنظومات المختلفة مثل السياسة الدولية والنظم التشريعية والتأثير في الاقتصاد.
كما يلاحظ أنه ومنذ نهاية الحرب الباردة ارتفع “دور الفاعلين من غير الدول، سواء الجماعات السياسية، أو المسلحة، أو الشركات المتعددة الجنسيات، خصوصا غير الخاضعة لسيطرة الدول بشكل كبير، كما يوجد الأشخاص الذين يلعبون دورا في الساحة الدولية كرجال الأعمال وتجار السلاح، واتضحت أهمية هذا الأمر، خصوصا في الشق السياسي والصراعات العسكرية، بتوظيف الجماعات المسلحة، في إطار الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي”(5 )
باختصار. ومما لا شك فيه أن النظام العالمي الراهن ستشغل مساحة كبيرة منه تلك الفواعل الثانوية من غير الدول، وسيكون لها من التأثير الخطير والأدوار المحورية، ما سيؤثر على الدول نفسها بتجاه تجاوز بعض الفواعل الرئيسية منها، وستقلص الهوة بين ما هو رئيسي وما هو ثانوي مع الوقت، باتجاه ما أطلقنا عليه في العديد من الدراسات بنهاية الجغرافيا السياسية وصعود الجغرافيا الافتراضية، ما سيعزز فرضيات نهاية الدول المستقلة أو في أحسن الظروف تراجع مكانتها التاريخية.
ـــــــــــــــــــــ
مراجع
1 ـ - إلياس. د. جوانيتا و د. بيتر ستش، أساسيات العلاقات الدولية، تعريب: أ.د. محيي الدين حميدي، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق/سوريا، ط1/2016م
2 ـ - هيدلي بول، المجتمع الفوضوي، مبادئ العلاقات الدولية، دار وائل للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، بدون ط/2005
3 ـ - هاني إلياس الحديثي، أهمية التعاون الإقليمي - دراسة في ضوء التغير في مراكز الاستقطاب الدولي - مركز الدراسات الدولية، دراسات استراتيجية، بغداد: ع 5/س 1998م
4 ـ - نور إسماعيل حسن، أثر الفواعل من غير الدول على النظام الدولي “داعش نموذجا”، جامعة ديالى، كلية القانون والسياسية، قسم العلوم السياسية، س 2016م
5 ـ - محمد عمر، احتدام التنافس.. كيف تتغير بنية النظام الدولي؟ مركز البديل للتخطيط والدراسات الاستراتيجية، نشر بتاريخ 12 ابريل 2018م، رابط الموقع : https://elbadil-pss.org


محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
[email protected]
MSHD999 @