بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وضَعَ الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش ـ أثناء الحرب ـ ووزير الخارجية الأميركي مشروعه لإعادة إعمار أوروبا الغربية، والذي عُرف بمشروع مارشال. وللإشراف على تنفيذ المشروع، أقامت حكومات أوروبا الغربية هيئة للإشراف على إنفاق ما يزيد على اثني عشر مليار دولار أميركي عُرفت باسم “منظَّمة التعاون الاقتصادي الأوروبي” حيث أسهمت تلك الأموال في إعمار وتشغيل المصانع الأوروبية، ووضْعِ عجلات قِطار الاقتصاد الأوروبي على سكَّته، ما مكَّن الاقتصاد الأوروبي من الانطلاق والانتعاش. وعلى إثْرِ التقدُّم الاقتصادي الذي شهدته أوروبا الغربية وتحوُّل المواطن الأوروبي إلى بحبوحة من العيش والرفاه، أصبحت دُوَلُها يُشار إليها بالبنان، وتُمثِّل حلمًا للكثير من أبناء شعوب العالم الثالث بالهجرة إليها والعيش في أكنافها.
لقد أحدث مشروع مارشال نقْلةً حقيقيةً بعد الدَّمار الذي أصاب الاقتصاد الأوروبي وكساده إلى حدٍّ كبير، ما أدَّى إلى انتشار مظاهر الفقر والبطالة والجوع، إلَّا أنَّ الولايات المُتَّحدة التي لَمْ تتضرر من الحرب بحُكْمِ موقِعها الجغرافي بعيدًا عن ساحة الحرب دخلت على خطِّ الأحداث مستغلَّةً الوضع القائم من خلال تقديم المساعدة لأوروبا الغربية لانتشالها من الشيوعية وأخذها في معسكرها. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، أصبحت أوروبا الغربية تابعةً للولايات المُتَّحدة، ولفرطِ هذه التبعية أطلق عليها الكثير لقَبَ “بيبي أميركا”، لذلك لا يُمكنُ لأوروبا أنْ تخرج من العباءة الأميركية، وإذا ما حاولت أيُّ دولة من القارَّة العجوز التمرُّد والخروج عن بيت الطاعة الأميركي، فإنَّ الردَّ الأميركي بالمرصاد، كما هو حال فرنسا حين دعا الرئيس إيمانويل ماكرون نظراءه الأوروبيين إلى تشكيل “جيش أوروبي حقيقي” موحَّد بعيدًا عن حلف شمال الأطلسي “الناتو” والاستقلال عن التبعية للولايات المتحدة، كانت المظاهرات التي عُرفت بـ”السترات الصفراء” أحد الردود السريعة المُوجَّهة ضدَّ شخص الرئيس ماكرون الذي يبدو أنَّه فهم الرسالة جيدًا بدليل الانسجام التَّام مع الموقف الأميركي المنخرط في الحرب ضدَّ روسيا على الأرض الأوكرانية، وإعلان الخنوع الكامل للإرادة الأميركية.
ومن خلال الانخراط الكامل للولايات المُتَّحدة في الحرب المُوجَّهة ضدَّ روسيا الاتحادية لتحجيمها وإضعافها اقتصاديًّا وعسكريًّا، وكذلك لمُواجهة الصين اقتصاديًّا وعسكريًّا وتحجيمها، ووضْع حدٍّ لطموحاتها نَحْوَ عالم متعدِّد الأقطاب، يبدو أنَّ أميركا باتت كالقِطَّة التي تأكل صغارها، حيث تبدي الاستعداد الكامل للتضحية بكُلِّ ما قدَّمته وعمَّرته في أوروبا عَبْرَ مشروع مارشال، وإعادة أوروبا إلى العصر الحجري، وإلى ما قَبل الثورة الصناعية، والتَّضحية بالاقتصاد الأوروبي وبالمواطن الأوروبي لتحافظ على بقائها القوَّة الوحدى المُهَيمنة على هذا العالم والمُتحكِّمة فيه.
إنَّ ما يسجِّله الاقتصاد الأوروبي اليوم من تضخُّم وارتفاع في الأسعار، وتراجعٍ للمستوى المعيشي للمواطن الأوروبي، وغياب مظاهر الرفاه ورغد العيش، وخروج المظاهرات الاحتجاجية في أكثر من بلد أوروبي، هو نتيجة مباشرة للسياسات الأميركية القائمة على الحروب والمغامرات والهيمنة والاستيلاء، ونتيجة لسياسة التبعيَّة التي تنتهجها القارَّة العجوز التي ـ كما يبدو ـ تعاني فعلًا من شيخوخة قيادات، ومن قادة يمتلكون الكاريزما والاستقلالية وقوَّة الموقف. لذلك ليس غريبًا أنْ يُرجعَ أحَدُ أسباب تفجير الحرب الأوكرانية ـ الروسية أميركيًّا إلى إفشال خطِّ أنابيب الغاز المشترك بَيْنَ ألمانيا وروسيا المعروف باسم “نورد ستريم2”، وتحجيم الاقتصاد الألماني المُنطلق بقوَّة ما يتمتَّع به من نُموٍّ مُستمر.
إنَّ استمرار ضخِّ الأسلحة بمليارات الدولارات (أميركيًّا وأوروبيًّا) ضدَّ كُلٍّ من روسيا الاتحادية والصين الشعبية، ولتسعير نيران الحروب شرقًا وغربًا، لَهُوَ من الخطورةِ بمكان من أنْ تنتقل هذه الأسلحة إلى أيدي الجماعات الإرهابية، وتُباع في السُّوق السوداء، فضلًا عن أنَّ هذه الأموال متأتِّية من دافع الضرائب الأميركي والأوروبي، إلى جانب تمويل هذه الحروب بما يُنْهبُ من ثروات ومقدَّرات الشُّعوب في هذا العالم؛ تارةً باسمِ الصداقة، وتارةً باسمِ التحالف والتعاون، وتارةً باسمِ حفظ الأمن والاستقرار، وتارةً بالاستيلاء المباشر كما هو الحال في العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها من الدوَل الأخرى في القارَّة الإفريقية. هذه هي الولايات المُتَّحدة وكما قال الدكتور مصطفى الفقي، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشَّعب المصري: «المتغطِّي بأميركا عريان».

خميس بن حبيب التوبي
[email protected]