لقد برهنتم أيها الأسرى الأبطال أنكم البوصلة الصائبة لحرية الأُمَّة الحقيقية، وأنَّ تضحياتكم نابعة من بصيرة نافذة، وإيمان بالوطن لا يتزعزع، وإرادة لا تلين. وأقلُّ ما يمكن لنا فعله هو أن نوصل أصواتكم وأفكاركم وتجاربكم إلى العالم برمَّته..

ما أعظم روحك التي تتحدَّى الزنازين والجدران الصَّماء وقضبان النوافذ وقسوة السَّجان لتعانق روح الله الذي قدَّس النفس البشرية واعتبرها خليفته في الأرض! ما أعظم إرادتك وأنت ترى ببصيرتك قبل بصرك نفقًا تحفره وزملاؤك بملعقة مسطِّرين صبرًا يضاهي صبر أيوب، وما أروع خشوعك وأنت وفي ظلِّ هذه الحال الصعبة ترنو عيناك إلى الأقصى خوفًا عليه من جرائم مستوطنين، ويهفو قلبك إلى جنين وأشجار الصبَّار وحضن الأم ورائحة الدار ووشوشات الأهل والأقربين المفعمة حنانًا ومحبَّة.
وأنا أقرأ رسالتك الموجَّهة إلى الشعب الفلسطيني البطل وإلى الأُمَّة العربية، أعلم لماذا يخشاك الاحتلال؟ لأنك تُمثِّل ضمير ووجدان كلِّ عربي شريف مؤمن بكرامته ومستقبل أُمَّته، وأعلم أيضًا أنَّ العدوَّ الغاصب يغتال ويسجن المؤهلين أن يكونوا قادة حقيقيين لهذه الأُمَّة ينقذونها من براثن الاختلافات والفتنة والتشرذم. وأنا أقرؤك وأنت متجذِّر في أرضك وفكر أُمَّتك وهُويتك، بينما تتسع رؤيتك الثاقبة لتشخيص الداء ووصف الدواء في آنٍ، مما يجعل من أفكارك وسرديتك منهج عمل جدير بالتحليل والتفصيل والتدريس والمتابعة، فلخَّصت بذلك جوهر استراتيجية العدوِّ الغاصب وأنجع الطرق لتقويضها والانتصار عليها.
لقد صدقت حين قلت إن بقاء هذه الشجرة الخبيثة “إسرائيل” “مرهون بحبل مشدود من الفرقة وتشتت الأُمَّة، وهرولة مطبِّعيها وسماسرة الأوطان بمن فيهم البعض من أصحاب الحقِّ” وها نحن نرى أنَّ الآلية الأهمَّ التي يتبعها العدوُّ في قهر شعوبنا واغتصاب أرضنا ومقدَّراتنا هي بثُّ الفرقة والنزاعات بين أبناء الوطن الواحد وأصحاب القضية الواحدة. فهو ليس قويًّا بما يملك وإنما يستمدُّ قوَّته من فرقتنا، وتردُّدنا وانسياق البعض وراء التضليل الذي يمارسه أو الفتات الذي يقدِّمه. لقد كانت هذه هي استراتيجيتهم منذ البداية، وحدَّثوها من خلال تجربتهم بشراء الذمم وتضليل الرؤى وخلط المفاهيم والأفكار، بحيث تصبح الخيانة وجهة نظر، ويصبح العدوُّ الذي يستهدف وجودنا برمَّته مؤهلًا أن يكون جارًا أو شريكًا بينما يغرس الشكّ في ضعاف النفوس بالحليف التاريخيِّ والاستراتيجيِّ لهم.
كم أنت شجاع ومقدام ونافذ البصيرة حين تدعو إلى “إجراء مراجعة شاملة وجردة حساب للسنوات الضائعة من عمر شعبنا بسبب مسيرة التسوية السياسية التي عمدت باتفاق أوسلو الذي شرَّع وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين” وهذه المراجعة والجردة ضرورية ليس فقط لشعبنا الفلسطيني، وإنما لشعبنا العربيِّ في كافة أقطاره؛ لأن الغمغمة السياسية والتاريخية شريكة في إنتاج كوارث هذه الأُمَّة، والافتقار إلى الشجاعة والصراحة والصدق في عيش وكتابة ورواية تاريخنا هو أحد أسباب استمرار الأعداء بالاستهانة بنا والاستقواء علينا والتجرُّؤ على ممتلكاتنا وهُويتنا.
لا شكَّ أنَّ الأعداء قد خلقوا سماسرة بين ظهرانينا يبيعون أرضهم وحقهم ومستقبل أبنائهم بمكتسبات مادية لن تعني شيئًا، ولكنهم ليسوا الوحيدين المشكلة؛ فهؤلاء قلَّة قليلة في أيِّ بلد ومكان مهما كثر عددهم، فهم لا يشكِّلون إلا القلَّة الضئيلة. ولكن المشكلة تكمن في الشريحة الأوسع الرمادية والساكتة عن الحقِّ والتي لا تمتلك الجرأة لتسمِّي الأشياء بمسمَّياتها خوفًا على منصب أو مكتسب أو خوفًا من ردود الأفعال، ولهذا فإنَّ دعوتك “للتحلِّي بالشجاعة والجرأة حتى نضع حدًّا لهذا الاستنزاف للمشروع الوطنيِّ برمَّته” هي دعوة مهمَّة وصائبة ويجب التوقُّف عندها وتحليلها وترجمتها إلى خطوات عمل.
كم أنت محقٌّ حين تقول إننا “بحاجة إلى ثورة وانقلاب في المفاهيم والتصورات”، وهذا يعني غربلة كلِّ ما يصدر عن هذا العدوِّ وأعوانه من إعلام تضليلي مغرض يصوِّر العدوَّ على أنه المنقذ ويتهم الأصدقاء التاريخيين بأنهم مشكلة العيش المشترك في المنطقة. كم نحن بحاجة إلى إعادة الحسم في استخدام مفاهيمنا وسردياتنا ومفرداتنا بحيث تنشأ الأجيال الشابة بتصورات قاطعة عن حقوقها ومقوِّمات كرامتها، وعوامل كبريائها وازدهارها. فهل يُعقل أن نختلف على تعريف كيان يستبيح الدماء والأرض والمقدَّسات ليل نهار، وحيثما يحلو له على هذه الأرض الطاهرة المقدَّسة. هل يمكن أن نختلف حول من يستبيح حرمة المسجد الأقصى والأرض التي بارك الله حوله والتي تضمُّ بلداننا الطاهرة الطيبة؟ هل يمكن أن نختلف في عدوٍّ اخترع معادلة فرض مئات السنين من السجن على المقاومين الأبطال رغم أن حياة الإنسان محدودة، وعمد على سياسة القتل والإعدام للمناضلين والشرفاء في عالم يبلع لسانه كلَّما تعلَّق الأمر بحقِّ العرب في أرضهم وديارهم المحتلة؟
لا شكَّ أنَّ هذا العدوَّ يَعد كلَّ العرب كتلة سرطانية، سواء كانوا في فلسطين أو الجولان أو أيِّ بقعة أخرى، وهو يعمل إما على اجتثاثهم وإما على ترويضهم مفهوماتيًّا ومصلحيًّا؛ كي يكونوا خاضعين له ولإرادته المعادية. فكما ادَّعى الإنسان الأبيض حين وصل إلى أستراليا عام 1788 أنها أرض بدون شعب، وعمد على قتل السكان الأصليين واجتثاثهم، عمد العدوُّ الإسرائيلي في عام 1948 على الادِّعاء أن فلسطين أرض بدون شعب. وقد كان استهداف الأطفال والشباب في كلتا الحالتين هدفًا دائمًا ومباشرًا للمستوطنين، وسلخ السكان الأصليين عن ثقافتهم ومعتقداتهم ولغتهم وحضارتهم. وما تركيز العدوِّ الإسرائيلي على تغيير المناهج المدرسية، سواء في فلسطين أو في الدول المطبِّعة إلا وسيلة لتغيير الأرضية المعرفية والوطنية للأجيال القادمة، والاستسلام لعدوٍّ يتحكَّم بمصيرنا.
إنَّ التمعُّن في تاريخ الأبورجينز، الشعب الأصليِّ في أستراليا ونيوزيلندا، وما تعرَّض له على يد الإنسان الأبيض المستوطن، وكذلك تجربة السكان الأصليين في الولايات المتحدة تنبئ بما يتعرَّض له الشعب الفلسطيني اليوم؛ لأنَّ الأسلوب ذاته والممارسات ذاتها تتكرَّر على يد العدوِّ الغاصب في فلسطين آملًا أن تكون هناك بقية ضئيلة لا تشكِّل خطرًا عليه وعلى مشروعه.
إنَّ الجواب على كلِّ الإشكاليات التي تعاني منها الساحة العربية يتمثَّل في إيمانكم أنتم الأسرى المكبَّلين جسديًّا بالأصفاد، والأحرار جدًّا في أرواحكم وضمائركم وعزائمكم، فلا مهادنة مع عدوٍّ يشنُّ علينا جميعًا حرب اجتثاث إما جسديًّا وإما فكريًّا ومفهوماتيًّا وثقافيًّا. لقد برهنتم أيها الأسرى الأبطال أنكم البوصلة الصائبة لحرية الأُمَّة الحقيقية، وأنَّ تضحياتكم نابعة من بصيرة نافذة، وإيمان بالوطن لا يتزعزع، وإرادة لا تلين. وأقلُّ ما يمكن لنا فعله هو أن نوصل أصواتكم وأفكاركم وتجاربكم إلى العالم برمَّته، ونتخذ منكم أيقونة للمواطنة الصادقة المخلصة، وأن نكون معكم في كلِّ الساحات كي تؤتي معاناتكم أُكلها انتصارًا وألقًا لفلسطين والأُمَّة العربية جمعاء.

أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية