أثبتت أحداث "الحريق العربي" التي تهز المنطقة هزًّا وتقذف أرجاءها بنيران الطائفية والمذهبية أن الغرب الاستعماري الموالي لكيان الاحتلال الإسرائيلي والداعم له ولقواعده التآمرية والعدوانية والإرهابية في المنطقة، نجح نجاحًا كبيرًا في حربه الجديدة الموجهة ضد شعوب المنطقة والمعروفة بحرب الجيل الرابع بإشغال الجماهير العربية والإسلامية بوسائل الدس والتحريض والتشويه والفتن الطائفية والمذهبية، وضرب التنوع الذي يتميز به الإسلام بهذه السموم، سواء عبر وسائل الإعلام العميلة أو عبر عملاء ووكلاء قام بتوظيفهم خدمة لهذا الغرض، مستغلًّا في هذه الحرب مؤسسات دينية لإحكام عملية التحريض والتشويه وإثارة الفتن؛ ما مكَّنه من تجنيد جيوش وظيفتها تزييف الحقائق وتغييب الوعي وتدمير الفكر وسلبه، وسلخ الكيان الإنساني عن محيطه ومجتمعه وعن فطرته السليمة وتغيير طبعه المسالم، وتلويث مزاجه العام بهجمات فكرية مشوهة بحيث تفقده القدرة على التمييز بين الحق والباطل والخير والشر وبين الصحيح وغير الصحيح، والتخفي وراء ما لقنه العدو هذه الجيوش من شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات وحماية المدنيين ومحاربة الإرهاب وغيرها من الشعارات الزائفة، في حين أخذ العدو القائم بالتجنيد يراقب ويتابع ويتدخل عندما يتطلب الأمر التدخل لتقديم الدعم والتوجيه. بمعنى أن هذه الجماهير غدت من السهل إشغالها في نفسها وإلهاؤها وإبعادها عن قضاياها المركزية والأساسية، والخروج بجوهر الموضوع إلى هوامشه، وتتبع زبد قضاياها بعيدًا عن كل ما ينفعها ويهمها، والجري خلف شعارات الغرب وعملائه الرنانة والإعجاب بها حتى الثمالة دون محاولة إعمال الفكر والفهم ووضع تلك الشعارات في سياقاتها العقلانية والمنطقية والوقوف على الأسباب التي دعت الغرب إلى سوق شعاراته في ظل ما تشهده أوضاعها من حراكات، والتوقف عند الدور الذي تمارسه جيوش العمالة من بني جلدتها، ولماذا هذا التوظيف؟ وما أهدافه ومراميه؟
وبهذا الوضع المأساوي الناتج عن حرب الغرب ذات الجيل الرابع لم تخسر الأمة الكثير من القضايا العربية زخمها وطاقتها المحركة فحسب، وإنما على وقع تلك الشعارات والتخندق وراء الفكر الغربي الذي كان يقف وراءها أطاح بما كان قائمًا ومستقرًّا من حيث الأمن والاستقرار الاقتصادي والسياسي، وأطاح بأوطان عربية ويهدد أخرى، لتجد الكثير من شواغل العروبة قد تحول إلى شواغر على خريطتها، تاركةً بذلك مساحات واسعة للأعداء والكارهين والحاقدين والحاسدين والضالين والمضلين والمضللين وأرباب المؤامرات والمطامع يُنظِّرون ويُخطِّطون ويُؤمِّرون، ويُجنِّدون جيوشًا من ضعاف النفوس والقلوب المريضة وموتى الضمائر، وخاوي الوطنية والانتماء، ولذلك لا غرو أن تجد قضايا العروبة الجوهرية نفسها يزحف عليها سونامي النسيان والتناسي، وتكون فريسة شريدة على موائد التقسيم وإعادة التشكيل، أو صارت رهينة لوهم قوائم الانتظار الطويل الممل حتى إشعار آخر أو استفاقة جديدة.
والقضية الفلسطينية ـ إحدى أهم القضايا العربية والمركزية ـ أصبحت الضحية الكبرى لسونامي النسيان والتناسي ليست في الذاكرة الجمعية فحسب، وإنما حتى في وسائل الإعلام العربية، حيث أخذت تفقد زخمها ومكانتها في عروش القرار العربي وإعلامها، وتضمحل كينونتها لدى الشعوب العربية المطوقة ببراثن الحرب الاستعمارية الجديدة التي نجح فيها الغرب الاستعماري المتحالف استراتيجيًّا مع كيان الاحتلال الإسرائيلي بتحويل البوصلة من القضية العربية المركزية وهي القضية الفلسطينية إلى الداخل في الدول العربية وبالأخص المؤيدة والداعمة للشعب الفلسطيني ومقاومته، وتحويل الفكر والوعي لهذه الشعوب أو للسواد الأعظم منها بعد عمليات متتالية من التزييف والتغييب والغسل للأدمغة إلى معاول هدم أوطانها والتحريض ضدها وتشويه قياداتها وحكوماتها، واستدعاء صعاليك الغرب الاستعماري المتصهين ومرتزقته للتدخل كيفما استطاع.
حقًّا إنها حرب نجحت في تغيير المفاهيم والقيم والأخلاق والمثل، وفي بيع الكرامة والأوطان، وصنع جيوش العمالة والنذالة، ولذلك لا غرو أن تغيب القضايا العربية الجوهرية عن الإعلام ما دامت قد غابت قبل ذلك من الوجدان فهذا أحد أهداف "الحريق العربي"!