لقد كسر حلاق بيكاسو القاعدة الشائعة ظلمًا عن الحلاقين بزعم أن أغلبهم أنانيون، ثرثارون، بخلاء يستغلون الزبائن وفق ما ورد في تراث بعض الشعوب، لكني لم أجد من هذه الصفات السيئة في خمسة عشر حلاقًا تعاملت معهم على مدى ستين عاما..

هي مأثرة أخلاقية بحقٍّ حين يقرر أحد دعم حاجات آخرين وتفضيلها على مكاسبه الشخصية، خصوصًا إذا عمل بمنتهى التفاني الإنساني واضعًا ما يملكه في إعمار النفوس، رغم أنه يمكن أن يدر عليه أرباحًا طائلةً لو أنه استخدم هذا الحق لصالحه فحسب. المأثرة هنا صانعها الحلاق الإسباني اخينو ارياس الذي كان على علاقة صداقة مع الفنان الإسباني الشهير بيكاسو، حيث أمضى الاثنان وطرًا زمنيًّا طويلًا من حياتهما في العاصمة الفرنسية باريس.
كان ارياس يواظب على حلاقة شعر بيكاسو، لكنه يمتنع تقاضي أي أجر منه، بل يفتخر كثيرًا أن يكون رأس بيكاسو تحت تصرفه بين الحين والآخر، ويرى في هذه الفرصة أعظم أجر يتقاضاه، مقابل ذلك اعتاد الفنان الإسباني استلال ورقة من حقيبة اليد التي يحملها عادة ثم يرسم على الورقة ما يتوارد في ذهنه من رؤية ويسلِّمها هديةً للحلاق.
لقد بلغ عدد اللوحات التي أهداها بيكاسو إلى ارياس ستين لوحة، الذي حرص بدوره أشد الحرص على الاحتفاظ بهذه الهدايا العزيزة عليه. وبعد أن توفي بيكاسو، عرضت العديد من المتاحف على الحلاق مبالغ مالية طائلة مقابل شراء تلك الثروة الفنية، لكنه رفض بإصرار كل إغراءات بيعها، وعندما عاد إلى قريته شيَّد متحفًا للوحات أهداه إلى إدارة القرية؛ لكي تستثمره في استجلاب الزوار واستثمار الرسوم المالية في تطوير الخدمات البلدية والإنفاق على المحتاجين، وما زال المتحف حتى الساعة مزدحمًا بالزائرين الذين يأتون من مختلف بقاع العالم، يدفعون مبالغ مالية نقدية سخية مقابل التمتع برؤية ذلك الإرث المهيب، حتى قيل من لم يتطلع إلى لوحات بيكاسو في متحف ارياس لا يعرف شيئًا عن إنجازات هذا الرسام العبقري بما فيها لوحة (الجورنيكا).
اللافت أن الحلاق ظل يعيش حياة بسيطة جدًّا لا تتعدى إمكانيات معاشية أي مواطن إسباني آخر محدود الدخل إلى حد التقتير.
لقد فضَّل خدمة قريته من خلال تلك الثروة التي يملكها، وعندما مات عام 2008 واعترافًا من سكان القرية بفضله، خرج سكانها لتوديعه ضمن حشد لم تحظَ به جنازة مواطن آخر منها.
لقد كسر حلاق بيكاسو القاعدة الشائعة ظلمًا عن الحلاقين بزعم أن أغلبهم أنانيون، ثرثارون، بخلاء يستغلون الزبائن وفق ما ورد في تراث بعض الشعوب، لكني لم أجد من هذه الصفات السيئة في خمسة عشر حلاقًا تعاملت معهم على مدى ستين عاما، كان أغلبهم يتمتع بصمت مطبق إلا ما يتعلق بطلبات الزبون، وكان بينهم من يقدِّم الشاي والقهوة إكرامًا للزبائن، ولا يتحدث إلا ردًّا على أسئلة تُطرحْ، وفي الواقع الأدبي والفني عالميًّا تتصدر مسرحية حلاق إشبيلية المشهد بشخصيتها المحورية الحلاق فيجارو الذي بذل المزيد من جهود الإقناع والمناورات منتزعًا الفرصة لشاب وشابة أن يتزوجا بعد أن تعرض مشروعهما إلى اعتراضات شديدة.
لقد استخدم فيجارو مزيجًا من الحنكة والمكر، وسلاطة اللسان لكي يحقق هدف الاثنين بالاقتران، وبالضد من تلك الحكاية، حكاية (حلاق بغداد) المصاب بداء الفضول والتدخل في شؤون الآخرين على غير وجه حق، ومن ذلك محاولته المفضوحة لتأليب الناس على قاضٍ، وهي من روائع قصص ألف ليلة وليلة.
إجمالًا، تظل مهنة الحلاقة واحدةً من المشاريع الاستثمارية الصغيرة المدرجة على قائمة الاهتمامات التي تروج لها الأمم المتحدة لمعالجة البطالة في البلدان النامية، وتأسست لها معاهد لتعليم فنونها، كما أنها ارتبطت بشكل أو بآخر بمهنة الطب الشعبي، ومن الصور الطريفة النادرة، ما زلت أحتفظ بذكرى تعود إلى طفولتي في مدينة الناصرية جنوب العراق عن الحلاق شرهان، لم يكن يملك دكانًا، وإنما وضع كرسي الحلاقة في فضاء مفتوح على المدخل الشرقي الترابي للمدينة مختصًّا بحلاقة الفلاحين الفقراء الذين يزورونها للتبضع.
كان يتقاضى أجورًا زهيدةً في حين لا يكتفي بتزيين رؤوسهم، وإنما تقليم أظافرهم، وتشذيب لحاهم وشواربهم، وتقديم الوصفات الطبية العشبية لهم إذا اشتكوا إليه من أي مرض يصيبهم.
وكان العديد من سكان القرى المحيطة بالناصرية يصطحبونه إلى قراهم قبل حفلات الأعراس ليتولى تزيين العرسان.

عادل سعد
كاتب عراقي
[email protected]