أيها الأحباب.. فبينما نحن ضيوف على الصحابي الجليل أسيد بن خضير ـ رضي الله تعالى عنه ـ توقف بنا الحديث في الحلقة الماضية عند التجليات النورانية التي تشع بالحب لسائر الصحابة الأجلاء من القلب النوراني لهذا الصحابي الجليل والتي تدل علة جمال مواقفه وسدادها وتسديدها، كآية التيمم سالفة الذكر، وليست آية التيمم التي كان لأسيد بن خضير (رضي الله عنه) موقفًا مضيئًا فيها، ففي آية الحيض أيضًا، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُو أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة ـ ٢٢٢)، كان له موقفًا بارزًا، جاء في (شرح سنن أبي داود لابن رسلان (2/‏‏ 414):(عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ ـ رضي الله عنه: أَنَّ اليَهودَ كانَتْ إِذا حاضَتْ مِنْهُمُ امْرَأةٌ أَخْرَجوها مِنَ البَيْتِ وَلم يُؤاكِلُوها وَلَمْ يُشارِبُوها وَلَمْ يُجامِعُوها فِي البَيْتِ، فَسُئِلَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ سبْحانَهُ:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُو أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(البقرة ـ ٢٢٢)، فَقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم: “جامِعُوهُنَّ فِي البُيُوتِ واصْنَعوا كُلَّ شَيءٍ غَيرَ النِّكاحِ”، فَقالَتِ اليَهُودُ: ما يُرِيدُ هذا الرَّجل أَنْ يَدَعَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِنا إلَّا خالَفَنا فِيهِ. فَجاءَ أسَيْدُ بْن خضَيْرٍ وَعَبّادُ بْنُ بِشْير إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقالا: يا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اليَهُودَ تَقُول كَذا وَكَذا، أفَلا نَنْكِحهُنَّ فِي المَحِيضِ؟ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى ظَنَنّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِما، فَخَرَجا، فاسْتَقْبَلَتْهُما هَدِيَّة مِنْ لَبَنٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ فِي آثارِهِما، فَسَقاهُما، فَظَنَنّا أَنَّه لَمْ يَجِدْ عَلَيهِما)، وهذا يدل على أنهما يريدان أن يسكتا اليهود حتى لا يتطاولون على أوامر الله ورسوله.
ومن المواقف التي لا تخفى على أحد موقفه المشهود في حادثة الإفك حينما (قام رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ـ من يومه واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول. فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو على المنبر: “من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا.. ولقد ذكروا لي رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي”، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج - وكان رجلًا صالحًا ولكن أخذته الحميّة - فقال لسعد بن معاذ: كذبتَ لعمرُ الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام أُسَيْد بن خُضَيْر وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل في المنافقين. فثال الحيّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َـ على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا ونزل. ثم قال أسيد:”يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه على المدينة ملكًا، فهو يرى أن الاسلام قد سلبه ملكًا) (روائع البيان تفسير آيات الأحكام 2/‏‏ 121)، قال الحافظ في (الفتح):(أطلق أسيد ذلك القول مبالغة في زجر سعد عن القول الذي قاله، وأراد بقوله له:”فإنك منافق” أي تصنع صنيع المنافقين، وفسر الحافظ ذلك بقوله:”تجادل عن المنافقين”. وقال المازري: إطلاق أسيد لم يرد به نفاق الكفر، وإنما أراد: أنه كان يظهر المودة للأوس ثم ظهر منه في هذه القصة ضد ذلك فأشبه حاله حال المنافق!؛ لأن حقيقته إظهار شيء وإخفاء غيره، ولعل هذا هو السبب في ترك إنكار النبي ـ صلى الله عليه وسلم) (النجم الوهاج في شرح المنهاج 8/‏‏ 536).
ولعلو مكانة أسيد بن خضير وسمو قدره عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم (أنه قربه منه ووثق فيه وثوقًا كبيرًا، ففي غزوة تبوك عقد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الألوية والرايات فدفع لواءه إلى أبي بكر ودفع رايته إلى الزبير ودفع راية الأوس إلى أسيد بن خضير وراية الخزرج إلى الحباب بن المنذر وأمر كل بطن من الأنصار وقبائل العرب أن يتخذوا لواء أو راية) (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 4/‏‏ 296).
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أسيدًا ـ رضي الله عنه ـ كان سيد الأوس فدفع الراية إليه من لدن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدل على ذلك، ومن أقوى الأدلة على رجاحة عقله وفطنته وسرعة بديهيته موقفه المشرف (يوم السقيفة، إثر وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث أعلن فريق من الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم بالخلافة بعد رسول الله، وطال الحوار، واحتدمت المناقشة، فكان موقف أسيد، على الرغم من أنه زعيم أنصاري كبير، كان موقفه فعالًّا في حسم الموقف، وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد الاتجاه، فقد وقف أسيد ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقال مخاطبًا فريق الأنصار من قومه: “تعلمون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان من المهاجرين. فخليفته إذن ينبغي أن يكون من المهاجرين. ولقد كنا أنصار رسول الله. وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته) (صفة الصفوة 1/‏‏ 191).
وكانت كلماته ـ رضي الله تعالى عنه ـ بردًا وسلامًا على قلوب الأنصار، فانطفأت نار غضبهم وأخمدت شعلة فتنتهم ووئدت ثورة تفرقهم في مهدها. بالإضافة إلى أنه كان صبورًا مؤمنًا راضيًا بقضاء الله مُسلمًّا لقدره في السراء والضراء والسعداء والبلواء، وهذا يتجلى واضحًا عندما جاءه خبر وفاة زوجته، ففي (تاريخ دمشق لابن عساكر 9/‏‏ 75):(عن عائشة قالت قدمنا من حج أو عمرة فتلقينا بذي الحليفة. وكان غلمان الأنصار يتلقون أهليهم فلقوا أسيد بن خضير فنعوا له امرأته فتقنع وجعل يبكي فقلت: غفر الله لك أنت صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس لك من المسابقة والقدم مالك وأنت تبكي على امرأة قالت فكشف رأسه، وقال:” صدقت لعمري ليحق ألا أبكي على أحد بعد سعد بن معاذ”، ويجدر بالذكر أن “أسيد بن خضير ولد له ولده يحي عَلَى عهد رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَكَانَ فِي سن من يحفظ، ولا تعرف لَهُ رواية، وَكَانَ أسيد يُكنى أبا يَحْيَى) (أسد الغابة، ط: العلمية 5/‏‏ 436).
(ولقد كان لدينه وخلقه موضع تكريم واحترام وإجلال خليفة رسول الله أبي بكر الصدّيق وحبّه له وقربه منه حتى مات الصديق ـ رضي الله عنه ـ وكذلك كانت له نفس المكانة والمنزلة في قلب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وفي أفئدة الصحابة جميعًا) (رجال حول الرسول، ص: 336).
ولأن الدائم هو الله ولا يبقى إلا وجهه الكريم، فقد توفي الصحابي الجليل أسيد بن خضير ـ رضي الله عنه ـ في شهر شعبان سنة عشرين للهجرة، فصلى عَلَيْهِ أمير المؤمنين عُمَر بالبقيع، وأبى أمير المؤمنين عمر إلا أن يحمل نعشه فوق كتفه، وتحت ثرى البقيع وارى الأصحاب الكرام جثمان مؤمن عظيم. وعادوا إلى المدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكريم عنه:”نعم الرجل أسيد بن حضير”. فسلام على أسيد بن خضير في الصالحين.

* محمود عدلي الشريف
[email protected]