.. وهو مثل ما معنا هنا في تلك الآية: (وكلمة الله هي العليا)، واعتبار الواو ابتدائية، أو اعتبارها عاطفة تفيد عطف الجمل، أو كونها حالية، وإعراب لفظ (كلمة الله) مبتدأ ـ هو الآكد عند علماء الإعراب، وأهل التفسير، ومَنْ تكلموا في التوجيهات النحوية للكلمات القرآنية، وقد ألمحُوا إلى ذلك، ونصوا عليه في تفاسيرهم، وقالوا: هو الأحقُّ بالاتباع، والْأَوْلَى بالقَبول؛ لأنه يعني مقصود، ومراد العقيدة الصحيحة، ويؤكد على سلامة الاعتقاد في أن كلمة الله، وهي (لا إله إلا الله، وقيل: وعده بالنصر)، هذه الكلمة هي عليا ابتداءً، وأصلًا، وأزلًا، وستظل كذلك حتى وإنْ بدا للرائي اليوم أن الإسلام ممتحَنٌ حتى في أرضه، وأن سِهام العدو موجهةٌ إليه، وكأنه ضعيفٌ غَيْرُ مُمَكَّنٍ، ولا حاكمٍ، ولا مهيمنٍ، هذا يبدو لك في الظاهر، لكنَّ كلمة الله هي العليا رغمَ أنفِ الأعداء، والمتربصين به، والمجتهدين في طمسه، والمواصلين الصدَّ عنه، فإنه سيبقى كما بَقِيَ آلاف السنين السالفة، وسيبقى ملايين السنين اللاحقة، وقد زالت حضاراتٌ، ودالت دولٌ، وانته تماما أممٌ عاندتْ ربَّ الكون، وصَدَّتْ عن سبيله كثيرًا، كلُّها زالت، وذهبتْ مع الذاهبين في الغابرين، وانتهتْ، وتُنُوسيتْ، وانمحتْ من أذهان الخلق، ولا يتذكرها الناسُ اليوم، فعلى سبيل المثال: أين الروم؟، وأين الفرس؟، وأين بيزنطة؟، وأين الظلمة: كسرى، وقيصر، وهِرَقْل، وغيرهم؟، فماذا بعدُ عن قراءة النصب، وأقوال العلماء فيها: جاء في كتب القراءات: وقرأ الحسن، ويعقوب، والأعمش:(وكلمةَ الله) بالنصب عطفًا على الأول (أي: حملًا على الفعل جعل)، وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف، وزعم الفراء أن هذا (أي قراءة النصب) بعيدٌ، قال: لأنك تقول: “أعتق فلانٌ غلامَ أبيه”، ولا تقول:”غلامَ أبي فلان”، وقال أبو حاتم نَحْوًا من هذا. قال:” كأن يجب أن يقال: “وكلمتَه هي العليا” (بالضمير)، قال أبو جعفر :النحاس معقِّبًا على قول الفراء: الذي ذكره الفراء لا يشبه الآية، ولكنْ يشبهها ما أنشده سيبويهِ :
لا أرى الموت يسبق الموتَ شيءٌ
نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقِيرَا
وهذا جيِّد حسنٌ (لكونه أعاد اللفظ اسما ظاهرا لا ضميرا غائبا)؛ لأنه لا إشكال فيه، بل يقول النحويون الحُذَّاقُ:”إن في إعادة الذكر (وهو هنا اسم الجلالة) في مثل هذا فائدة، وهي أن فيه معنى التعظيم، قال الله ـ عزَّ وجل:(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) (الزلزلة 1 ـ 2)، فهذا لا إشكال فيه”.
ويمكن أن يُخَرَّجَ ـ وهذا رأيي ـ على تضمين الفعل (جعل) معنى الفعل (خلق)، ويكون كلٌّ من كلمتيْ: “السفلى والعليا” أحوالًا، لأن (الفعل “جعل” بمعنى “خلق” يتعدى لفعل واحد)، فيكون المنصوب الثاني حالًا، كما تقول: “جعل الله فلانًا جميلًا”، أي: خلقه والحال أنه جميل، ويكون معنى الآية عندئذ:”خلق كلَّ كلمة له ثابتةً سرمديةً أزليةً، فكل كلمة للكافرين سفلى دنيا زائلة”، وكل كلمة لله عليا باقية سامية عالية، فكلمة الذين كفروا سفلى دائمًا، وكلمة الله عليا دائمًا، وهو رأيٌ مقبول؛ خروجًا من الخلاف، والأصل أن الفعل (جعل) في اللغة له ثلاثة معانٍ:” جعل بمعنى “غيَّرَ وحوَّلَ وصيَّرَ” (فيكون من الأفعال التي تنصب مفعولين)، وجعل بمعنى “خلق وأوجد” (فيكون من الأفعال التي تنصب مفعولًا واحدًا)، وجعل بمعنى “بدأ وشرع” (فيكون من أفعال الشروع التي تعمل عمل كان وأخواتها بالشروط المعروفة المقررة عند النحويين).
فقد أدركْنا هنا أن المحلَّ الإعرابيَّ، أو الموقعَ النحويَّ الوظيفيَّ للفظ، ودقةَ توجيهِه يكون أدعى إلى بروز الإعجاز، وإظهار قمة البيان، وإيضاح أدقِّ الدلالات، وأقربها إلى مقاصد، وأهداف، وغايات القرآن الكريم، ونأخذ شاهدًا آخر على أن الموقع الوظيفي للكلمة، أو محلها الإعرابي الذي اختاره القرآن الكريم هو الأَوْلَى معنًى ودلالةً وقيمةً، وأقرب إلى مقصود العقيدة الصحيحة، والدلالة القرآنية المرادة، وهو قوله تعالى:(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (الذاريات ـ 25).

* د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]