إن السكوت الطويل على جرائم الحرب والانتهاكات والممارسات وجميع أخطاء كيان الاحتلال الإسرائيلي لم يدفعه فقط لتطوير أدوات الدمار الشامل ووسائل إلحاق الأذى بالشعب الفلسطيني، وتصعيد جرائم الحرب والانتهاكات والاستيطان وتدنيس المقدسات الإسلامية، والتنمر على الحق الفلسطيني ورفض أي حلول سلمية، وإنما دفعه هذا السكوت إلى الاعتقاد بأنه كيان فوق القانون، فوضع ذاته موضع المنظمات الدولية والشرعية الدولية، متماديًا بصورة ممجوجة وفظة وفاضحة بتصنيف الأفراد والمنظمات والدول على لوائح خاصة به حسب درجة ولاء كل فرد أو منظمة أو دولة للمستعمرة الكبرى المسماة "إسرائيل"، فمن تولى الدفاع عن مصالح هذه المستعمرة وذاد عن ظلمها وجرائمها وتستر عليها وعلى استيطانها وانتهاكاتها كان في أعلى درجات الرضا صهيونيًّا، والويل والثبور وعظائم الأمور لكل من خرج عن هذا السياق، وإذا كان يشغل منصبًا أو يتولى لجنة تحقيق أو رئاسة منظمة أو محكمة دولية عليه أن يتهيأ لسيل المكائد والتشويه والتحريض والدسائس، وعواصف القذف والاتهامات حتى يذعن مستسلمًا ومسلِّمًا استقالته، ويتخلى عن واجبه الذي فرضته عليه مسؤولية المنصب وأمانة الموقع، كما هو حال القاضي اليهودي الجنوب إفريقي ريتشارد جولدستون الذي قاد لجنة التحقيق في جرائم الحرب جراء العدوان الإرهابي الإسرائيلي على قطاع غزة في نهاية 2008 وبداية 2009م، وقبله لجنة التحقيق في مجزرة جنين التي شكلها كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة، وقبلهما التقرير الذي أعده بطرس بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة حول مجزرة قانا الأولى في العدوان الإرهابي الإسرائيلي المعروف بـ"عناقيد الغضب". وإذا كان القائم بالدور والواجب منظمة عليها هي الأخرى أن تنال نصيبها من التشويه والتحريض والاتهامات الباطلة كما هو حال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي تبنى تقرير لجنة جولدستون، والذي اتهمه القتلة ومجرمو الحرب الإسرائيليون بأنه منحاز لما أسموه "الإرهاب الفلسطيني". وأما ما يخص الدول الرافضة للاحتلال الإسرائيلي والداعمة للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ومقاومته، فحدث ولا حرج، فدول دمرت وأسقطت وأخرى يجري تدميرها وإسقاطها على النحو الذي يراه العالم أجمع في العراق وليبيا وسوريا والحبل على الجرار.
اليوم يضاف اسم آخر في لوائح الانتقام الإسرائيلي وهو القاضي الكندي وليام شاباس الذي قدم استقالته من رئاسة لجنة التحقيق لمجلس حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة حول جرائم الحرب الإسرائيلية في العدوان الإرهابي الأخير على قطاع غزة، بعد حملة تضليل وتشويه قادها كيان الاحتلال الإسرائيلي بالتعاون مع حلفائه الاستراتيجيين المدافعين عن جرائم حربه والداعمين لإرهابه واحتلاله، حيث عبر شاباس بلغة تدلل على شراسة المعركة المعدة ضده وقوة الهجوم، وتمسكه بما تمليه عليه الوظيفة وضميره، وبما لا يدع مجالًا للتشكيك في التقرير الذي عملت عليه اللجنة، قائلًا إنه يأمل أن تضع استقالته حدًّا لأي انطباع حول حصول "تضارب في المصالح"، مؤكدًا "ضرورة التركيز على عمل البعثة لما فيه من صالح للضحايا من الجهتين".
ومن المفترض أن تنشر لجنة التحقيق المؤلفة من ثلاثة خبراء والتي عين مجلس حقوق الإنسان في أغسطس الماضي شاباس رئيسًا لها تقريرها في الثالث والعشرين من مارس المقبل، في الوقت الذي تكون فيه السلطة الفلسطينية قد أكملت جزءًا كبيرًا من تحضيراتها لتقديم الأدلة إلى المحكمة الجنائية الدولية والتي تدين كيان الاحتلال الإسرائيلي والتي سيتضافر معها تقرير لجنة شاباس. وهو ما يؤكد أن الإطاحة به جاءت مبكرة لتصب في هذا الاتجاه لفكفكة الأدلة وحرق ما بيد السلطة الفلسطينية من أوراق وأدلة إدانة، وهو ما يؤكده تعقيب مجرم الحرب بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال أمس على استقالة شاباس بقوله "بعد استقالة الرئيس، فإن تقرير هذه اللجنة "المنحازة" و"ذات المواقف المناهضة" لـ"إسرائيل"، يجب أن يلغى".
ومن المؤسف أن هذه الازدواجية ووضع مجرمي الحرب فوق القانون هي التي تقلب اليوم موازين الاستقرار في العالم وتضرب الأمن والسلم الدوليين، في حين يجمع خبراء القانون الدولي على أن كيان الاحتلال الإسرائيلي يجب أن يكون في موضع محاسبة وعقاب على هذا الخرق الخطير والفاضح لمبادئ القانون الدولي وتطاوله المباشر على ميثاق الأمم المتحدة وتهديد الأمن والسلم الدوليين والاستقرار العالمي.