وفقًا لنظرية التخصيص الجانبي لوظائف الدماغ يصنف علماء النفس التفكير إلى نوعين: تفكير يعتمد على الجانب الأيسر من الدماغ ويستخدم المنطق والتفكير النقدي والأرقام والتحليل والاستنتاج، وجانب أيمن للدماغ يتميز بأنه الأفضل في الأعمال الإبداعية والتعبيرية، وببعض القدرات كالتعرف على الوجوه والتعبير عن المشاعر وإدراكها لدى الآخرين والموسيقى والألوان والصور والذكاء الروحي والحدس والالهام والإبداع. ويدرك هذا النوع من التفكير الواقع بناء على إلهام ومدركات وجدانية تتبلور في ممارسات لا تستند إلى المدركات الحسية، ويكون دور التربية أن تعتني بالبعدين معًا، الجانب الأيمن والجانب الأيسر من الدماغ، وذلك من خلال تدريب الطلبة في المدارس على شحذ العقل التجريبي الحسي وتنشيط العقل الإبداعي عن طريق تربية الخيال الإيجابي وتنشيط الالهام والحدس وتعزيز عمل البصيرة، وذلك من أجل تحقيق التوازن الذي يحقق التكامل بين وظائف الدماغ، ويصبح التعليم جهدًا تكامليًا بين الحواس وبين الروح أو ما يمكن أن نطلق عليه العقل الفطري للإنسان، باعتبار أن العقل التجريبي الحسي يستمد قوته مما تراكم في الذاكرة البشرية من معرفة ومعلومات تصبح مصدرًا للقياس والمقارنات، بينما يعتمد العقل الفطري المتعلق بالفص الأيمن من المخ على الإدراك الباطني الذي لا يستمد قوته أو برهانه مما نرى أو نسمع أو نلمس، وإنما يستمد قوته من الاتصال الفعال بين الإنسان وخالقه واستمداد النور منه بدون أن يهمل البعد التجريبي والحسي.
من هنا فإن المطلوب من المعلمين توجيه الاهتمام والجهد إلى تربية هذين البعدين معًا، العقل الأيسر والعقل الأيمن الذي يتلقى الإشراقات من النور الذي نفخه الله بداخل كل إنسان.
ولعل هذا ما يبرر الحاجة إلى تعليم التأمل والتفكر وايقاظ البصيرة لدى المتعلمين من خلال تدريبهم على التأمل والتزام الصمت والهدوء لكي يتمكنوا من التحكم بفرط الحركة والتخلص من التشتت الذهني وصولًا إلى تحقيق الصفاء والاتزان والحكمة.
إن ما تعانيه بعض المدارس من عنف وتنمر وعدم تركيز واعراض عن التعليم، يمكن أن يعزى إلى الانفصال بين الداخل والخارج في شخصيات المتعلمين، إن ما قد يتعرض له الناس من تخبط واخفاقات وعدم انسجام فإنما يعزى إلى هذا الانشطار بين العقل التجريبي وبين العقل النوراني بداخل المتعلمين.
في تجربة مستمرة في إحدى المدارس التي تحرص على أن يؤدي التلاميذ صلاتهم جماعة قبل خروجهم من المدرسة أثمرت التجربة في نشر السكينة والهدوء والحفاظ على ممتلكات ومرافق المدرسة وخفض السلوك العدواني وعلاج التنمر، وزيادة التركيز، وتحقيق التوافق لدى التلاميذ وحتى بين المعلمين وبعضهم البعض. لأن هذه الممارسة التربوية القائمة على التوازن بين جميع أبعاد شخصية المتعلم يمكنها أن تدعم العقل المؤيد الذي تحدث عنه بعض العلماء والفلاسفة والمفكرين وأفرد له الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن بابا كاملًا في كتابه مسألة العقل ويعني به الفعل الذي يمارسه الإنسان مطبّقًا للأوامر الشرعية وملتزمًا بالأخلاق ومستمدا الحكمة والاتزان من خلال أعمال التزكية الباطنية.

* د ـ أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية