«.. انتشرت بمصر في العقود الأخيرة ظاهرة الأكل خارج المنزل، وتوقفت بعض الأسر عن دخول المطبخ، خصوصا عندما تكون الأم امرأة عاملة، وسهل الأمر توافر الأكل الجاهز بجميع أنواعه، حتى الأنواع المصرية التقليدية التي كانت حكرا على مطبخ المنزل، مثل المحاشي..»
أكثر ما يشكو منه سكان العالم الآن هو التضخم وارتفاع أسعار السلع والخدمات، والأمر ليس متعلقا بأزمة ارتفاع أسعار الحبوب والمواد الخام التي صاحبت الحرب الروسية الأوكرانية فحسب، ولكن دخلت الضرائب التي اضطرت الحكومات لفرضها لمواجهة نقص الإيرادات وسد العجز في موازنتها على الخط، وكان قطاع الترفيه والمطاعم والكافيهات أكثر القطاعات التي اشتعلت أسعارها في الفترة الأخيرة. ففي مصر مثلا عندما ترتاد مقهى سياحيا، أو تجلس لتناول الطعام أو تطلبه من أحد مطاعم الوجبات الجاهزة، تكتشف أن الضرائب والرسوم تفوق ربع قيمة الفاتورة، وتزيد التكلفة إذا استعنت بخدمة التوصيل “الديلفري”.
ورغم ضخامة السوق المصري الذي يتسع لأكثر من 100 مليون مستهلك، إلَّا أن كثيرا من أصحاب المطاعم والكافيهات يشكون من الكساد وعزوف الزبائن عن ارتياد محلاتهم، بسبب ارتفاع الأسعار وتكدس المقاهي والمطاعم في أماكن بعينها، وتراجع القدرة الشرائية لشرائح كثيرة من المصريين، جراء موجات التضخم المتعاقبة، وتراجع قيمة الجنيه المصري.
وانتشرت بمصر في العقود الأخيرة ظاهرة الأكل خارج المنزل، وتوقفت بعض الأسر تقريبا عن دخول المطبخ، خصوصا عندما تكون الأم امرأة عاملة، وسهل الأمر توافر الأكل الجاهز بجميع أنواعه، حتى الأنواع المصرية التقليدية التي كانت حكرا على مطبخ المنزل، مثل المحاشي بجميع أنواعها والملوخية والبامية وغيرها من الأكلات التي كانت ربات البيوت المصريات يتفنن في صنعها.
وأتذكر وأنا طفل صغير في بداية سبعينيات القرن الماضي، عندما ظهرت لأول مرة محلات الكشري في الحي الذي أسكن فيه، وأغراني منظر الكشري داخل أحد المحلات، فدخلت وجلست على الطاولة والتهمت طبقا صغيرا بالقروش القليلة التي كانت معي، ولم أمكث أكثر من دقائق معدودات، ولكن يبدو أن أحد الجيران شاهدني على هذه الحال، وتطوع ووشى بي عند أمي، والتي ثارت في وجهي واعتبرت جلوسي في مطعم لتناول الطعام جريمة لا تغتفر، وإساءة كبيرة للأسرة، وكيف أن الناس في الحي الذي نسكن فيه أعزاء شامخي الرؤوس “ستعايرنا” وتظن أن بيتنا خالٍ من الطعام، وهذا كان حال أغلب الأسر الفقيرة والمتوسطة في تلك الفترة وهو الأكل مما تطبخه الأم داخل المنزل.
المفارقة الغريبة أن النساء في مصر جالسات معظم ساعات اليوم أمام برامج الطهي التي تبثها قنوات التليفزيون، ومنصات التواصل الاجتماعي، وتحوَّل مقدِّمو هذه البرامج إلى نجوم بفضل كثافة المشاهدة وعدد المتابعين على الفيس بوك واليوتيوب، وسبق للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي التعليق على كثرة برامج الطهي، وتمنى أن يكون هناك اهتمام مماثل من المشاهدين والقائمين على الإعلام بالعلوم والابتكارات والتكنولوجيا الحديثة، ولكن عندما تكون هناك عزومة أو مناسبة مهمة للأسرة، تجد الأكل يحضر جاهزا، وتكسل ربة المنزل عن دخول المطبخ والتورط في طهي أصناف مجهدة في صنعها، وغير مضمونة النتائج، فتلجأ للطعام الجاهز رغم أثمانه الباهظة. بسبب ظروف الدراسة قديما والغربة حديثا حاولت تعلم الطهي، واستهواني إعداد الطعام من صنع يدي، حتى وصلت لدرجة من الإجادة لا بأس بها، وينتظر ابني الشاب إجازتي السنوية لأطهو له الأصناف التي يحبها، والتي حرم منها بسبب إقامته بعيدا عن الأسرة، وفشله في طهو أبسط الأشياء، واعتماده على الأكل من الشارع طوال العام، ومعاناته الدائمة من آلام في المعدة، فضلا عن الأسعار المبالغ فيها للطعام بجوار الجامعة التي يدرس ويسكن بجوارها.

محمد عبد الصادق
[email protected]
كاتب صحفي مصري